وحكى عن النّظام أنه قال القرآن كلّه أو بعضه جاء على كلام العامّة في أمثالهم إياك أعني فاسمعي يا جارة. وقد ظهر وجه الحكمة بما بينّاه في تنزيله بعض الكتاب محكما وبعضه متشابها فأمّا التّنبيه على كلّ نوع منهما فإنّا نقول وبالله التّوفيق :
اعلم أنّ المحكم من الآي هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا فيوافق ظاهره باطنه إذا تأوّل كأنّه أحكم أمره ومنع متدبّره من تسليط الشّبهة عليه كما منع هو في نفسه من أن يتورده الاحتمال ، وأصل الأحكام المنع. ومنه حكمة الدابة فإن قيل : إنّ الله تعالى قد وصف آيات القرآن كلّها بمثل هذه الصفة لأنه قال تعالى : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [سورة هود ، الآية : ١] وإذا كان كذلك فالمتشابه محكم أيضا ويؤدّي ظاهر الآيتين إلى تناقض قلت : إنّ قوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) معناه أتقنت وأتي بها على حدّ من الوثاقة في النّظم والإصابة في المواضع لا يتخلّلها اختلال ، وهذا كما يقال للبناء الوثيق محكم. وقد قال الله تعالى في موضع آخر : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [سورة يونس ، الآية : ١] فجعل الكتاب حكيما بما تضمّنه من الحكمة وإذا وضح ذلك فقد سلم ما قلناه ولم يحصل بحمد الله تناقض ، ويشهد لما تأوّلنا عليه المحكم أنّه جعل في مقابلة المتشابه.
وجوّز بعض المتأوّلين أن يكون معنى أحكمت آياته أجملت من حيث جاء بعده ، ثم فصّلت إذ كان الإجمال والتّفصيل يتعاقبان ، وهذا الذي قاله لا يعرف في اللغة ، والمتشابه هو الذي دخل في شبه غيره فيعتوره تأويلات أو أكثر ، ومن شرطه أن يرد إلى المحكم فيقضي به عليه ، لهذا قال تعالى في صفة ثمر الجنة : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥] فقيل المعنى يشبه بعضه بعضا في الجودة والحسن. وقال المفسرون : يشبه بعضه بعضا في الصّورة ومختلف الطعوم وقد وصف تعالى الكتاب كلّه بالمتشابه كما وصفه بالحكيم ، وكما وصف آية بالإحكام فقال : كتابا متشابها والمعنى يصدّق بعضه بعضا فلا يختلف ولا يتناقض. وقل عليّ لابن عباس حين وجّه به إلى الشّراة (١) قبل القتال لا تناظروهم بالقرآن ، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه ، ولكن ناظروهم بالسّنة فإنّهم لا يكذبون عليها فقوله : حمّال أي : يحمل عليه كل تأويل ، وهذا يترجم عن معنى المتشابه ومثال المحكم نحو قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل ، الآية : ١٤٥] وكقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [سورة النحل ، الآية : ٩٠].
فأمّا وجوه المتشابه فمختلفة ، (منها) اتّفاق اللّفظين مع تنافي المعنيين في ظاهر آيتين كقوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [سورة فاطر ، الآية : ٣] فهذا محكم لفظه استفهام
__________________
(١) قال في القاموس : الشراة الخوارج ، والجبل والطّريق وجبل بنجد لطيّ.