وهذا في قضايا الأوقات كما اقتصّ الجاحظ من تعصّبه لمصره ، فقال : من فضلة البصرة ما خصّت به من أرض الصّدقة إنه لا يسوغ تغيّرها ولا يتهيّأ تبديلها ، ومن المد والجزر المبخر خصوصا لأهلها المجمول نوما بين قاطنها ومسافرها ، ومصعدها ، ومنحدرها على مقابلات من الأوقات ومقادير من السّاعات ، وعلى منازل القمر في زيادة النّور وامتلائه ، ونقصان ضوئه واستسراره ، فلا يعرف مصر جاهلي ، ولا إسلامي أفضل من البصرة ، ولا أرض جرى عليها الآثار أشرف من أرض الصّدقة ، ولا شجرة أفضل من النّخلة ولا بلد أقرب برا من البصرة ، فهي واسطة أبجر ، وخضراء من بداو ، وريعاء من فلاة ، وقانص وحش من صائد سمك ، وملاحا من جمال من البصرة.
فهي وسطة الأرض وفرضة البحر ومضبض الأقطار ، وقلب الدّنيا فساحله بعض المتقضية للغيث ، وبلاده بأن قال : الكرمة أفضل الأشجار ، والعنب سيّد الثمار ، ناعمة الورق كأنّها سرقة ناضرة الخضرة بديعة الشكل ، سلسة الأفنان ، رقيقة الجلد عند المذاق يسرح في البدن نورها ، وفي القلب سرورها ، مع ذكاء العرق وصحّة الجوهر إن عرشت على عمد الخشب ، وطبقات القصب تضاعف علتها ، وتكامل حسنها ودخلها ورأفة جهارتها وأنق ينعها ، وإن بسطت أغصانها على الدّار التي هي فيها أظلّت وإن مدّت على الجدران وقيدت إلى حدود الجيران سامحت قائدها وقلّ اعتياضها تغني عن الشارات والفساطيط ، وتكفّ صيد الحر في حمارة القيظ ، واحتدام الشمس أوان الحاجة إلى الرّوح وتردّ عواصف الرّياح وقواصفها ، بكثافة ورقها ، وضفاقة ظلّها في كلام يتّصل بين الفريقين ولا ينقضي.
وليس من همتي ولا سدمي إنما أردت التّنبيه على أنّ كلّ ذي أرب همّته في نظرية بلدته طبعا لا تكلفا وكل ذي سبب نهمته في تزكية ممكنة عمدا لا سهوا ، ثم حسن الشّيء وقبحه وفضله ونقصه لما عليه في نفسه لا لجوى راصد أو ألف جاذب. والحديث شجون ، والفخر بالشيء فنون ، لكنّ الله تعالى لمّا ذكر الدّيار فخبر عن موقعها من عباده حتّى سوّى بين قتل نفسهم والخروج من ديارهم في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة النساء : ٦٦] وفي موضع آخر : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) [سورة البقرة : ٢٤] جعل لهم في الأرض بيتا نسبه إلى نفسه بإزاء البيت المعمور لملائكته ، وصيّره حرما وأمنا ، ومثابة للناس ، ومطافا يلوذ به الخائف ولو كان من الوحش.
كما يأوي إليه الهارب من الأنس عظيما شأنه منيعا جاره لا يغشى أهله غضاضة الامتهان ، ولا سأمة الابتذال ، فهم على مر الأيام وكلة وحمس في أديانهم متمنعة ، وقد كان من الفيل والحبشة ما أرّخ به الزّمن كما أرّخت الحوادث والنّحل ، وكما قيدت أيام النّبوات