قال ابن إسحاق (١) : وكانت قريش لا أدرى أقبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس (٢) ، رأيا رأوه وأداروه.
فقالوا : نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت ، وقاطن مكة وساكنها ، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ، ولا مثل منزلتنا ، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا ، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم ، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم ، وقالوا : قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم.
فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم ، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها ، وأن يفيضوا منها ، إلا أنهم قالوا : نحن أهل الحرم ، وليس ينبغى لنا أن نخرج من الحرمة ، ولا نعظم غيرها كما نعظمها ، نحن الحمس ، والحمس أهل الحرم. ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم ، يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم.
ثم ابتدعوا فى ذلك أمورا لم تكن لهم ، حتى قالوا : لا ينبغى للحمس أن يأتقطوا الأقط (٣) ، ولا يسألوا السمن (٤) وهم حرم ، ولا يدخلوا بيتا من شعر ، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا فى بيوت الأدم ما كانوا حرما.
ثم رفعوا فى ذلك فقالوا : لا ينبغى لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجا أو عمارا ، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا فى ثياب الحمس ، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة ، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ، ولم يجد ثياب أحمس فطاف فى ثيابه التي جاء بها من الحل ، ألقاها إذا فرغ من طوافه ، ثم لم ينتفع بها ، ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدا ، فكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقى.
فحملوا على ذلك العرب فدانت به ، فوقفوا على عرفات وأفاضوا منها ، وطافوا بالبيت عراة ، أما الرجال فيطوفون عراة ، وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا ثوبا مفرجا عليها ، ثم تطوف فيه.
__________________
(١) انظر : السيرة (١ / ١٧٣ ـ ١٧٧).
(٢) الحمس : جمع أحمس ، وهو شديد الصلب.
(٣) الأقط : شيء يتخذ من المخيض الغنمى ، وجمعه أقطان.
(٤) يسلئوا السمن : يقال سلأت السمن واستلأته إذا طبخ.