قال الأصمعي (١) :
دخلت على هارون ـ ومجلسه حافل ـ فقال : يا أصمعي ، ما أغفلك عنا ، وأجفاك لحضرتنا! قلت : يا أمير المؤمنين ، ما ألاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك ، فأمرني بالجلوس ، فجلست ، وسكت. فلما تفرق الناس إلا أقلهم نهضت ، فأقعدني (٢) حتى خلا ، قال : يا أبا سعيد ، ما ألاقتني؟ قلت : أمسكتني يا أمير المؤمنين [وأنشدت](٣) :
كفاك كفّ ما تليق درهما |
|
جودا وأخرى تعطي بالسيف الدما |
فقال : أحسنت ، وهكذا فكن ، و [قر](٤) نا في الملأ ، وعلمنا في الخلاء ، وأمر لي بخمسة آلاف دينار.
وقيل : إنه قال له : ما لاقتني بعدك أرض. فلما خرج الناس قال له : ما معنى : ما لاقتني أرض؟ قال : ما استقرت بي أرض ، كما يقال : فلان لا يليق شيئا أي : لا يستقر معه شيء ، وقال له : هذا حسن ، ولكن لا ينبغي أن تكلمني بين يدي الناس إلا بما أفهمه ، فإذا خلوت فعلّمني ، فإنه إما أن أسكت فيعلم الناس أني لا أفهم ، وإما أن أجيب بغير صواب ، فيعلم الناس أني لم أفهم. قال الأصمعي : فعلّمني أكثر مما علمته.
مازح الرشيد أم جعفر فقال لها : كيف أصبحت يا أم نهر ، فاغتمت لذلك ، ولم تدر ما معناه ، فوجهت إلى الأصمعي فسألته عن ذلك ، فقال لها : الجعفر : النهر الصغير (٥) ، وإنما ذهب إلى هذا ، فسكنت نفسها.
قال الأصمعي :
دخلت على هارون الرشيد ، فقال لي : يا أصمعي ، إني أرقت ليلتي هذه ، فقلت : لم ،
__________________
(١) الخبر رواه أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد ١٤ / ٩ من طريق محمد بن الحسين الجازري حدثنا المعافى بن زكريا حدثنا محمد بن الحسن بن دريد حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي ، وذكره : وتاريخ الخلفاء ص ٣٤٣.
(٢) في تاريخ بغداد : فأشار إليّ أن أجلس ، فجلست حتى خلا المجلس فلم يبق غيري وغيره ومن بين يديه من الغلمان.
(٣) استدركت عن تاريخ بغداد.
(٤) بياض بالأصل ، وكتب على هامشه «كذا» والمستدرك للإيضاح عن تاريخ بغداد.
(٥) في تاج العروس : الجعفر النهر عامة. وقيل : هو النهر الصغير ، وقيل : هو النهر الكبير الواسع. وقال ابن دريد : الجعفر : النهر ، فإذا كان صغيرا فهو فلج (تاج العروس : جعفر).