وضوح. وهو بذلك بغدادى ينتخب من المدرستين ما يراه أولى بالاتباع ، وإن غلب عليه النزوع إلى المذهب البصرى لأنه كان المذهب الذى حرّرت أصوله وفروعه وعلله.
وكان عقل أبى على من الخصب بحيث ملأ نفس ابن جنى تلميذه ، حين ألمّ بالموصل ، من جميع أقطارها ، وهو يكثر من ذكر آرائه فى كتابه الخصائص وغيره ، حتى ليبدو كأنه كان كنزا سائلا بمسائل اللغة والنحو وما يجرى فيها من ضبط الأصول وضبط الأقيسة والعلل ، وقد استضاء به فى كثير من الأصول الكلية التى حرّرها فى كتابه الخصائص ، فمن ذلك «السلب» يقول : «نبّهنا أبو على ـ رحمهالله ـ من هذا الموضع على ما أذكره وأبسطه لتتعجّب من حسن الصنعة فيه» (١) ويأخذ فى بيان أن الأصل فى الفعل الإثبات مثل قام فهى لإثبات القيام ، ثم يقول إنهم قد استعملوا ألفاظا فى السلب ابتداء مثل مادة «عجم» فهى للإبهام ، ولتوضيح ذلك يعرضها فى استعمالاتها المختلفة ، ثم يبين أنهم قد يدخلون الهمزة على الفعل لإفادة السلب مثل أشكيت الرجل إذا زلت له عما يشكوه ، وقد يضعفون ثانيه لنفس الغاية مثل مرّضت الرجل أى داويته من مرضه ، وقد يأتى السلب بدون زيادة. ويفيض ابن جنى نقلا عن أستاذه فى أمثلة كثيرة. ونراه ينقل عنه فى باب تعارض القياس والسماع أمثلة خالف فيها العرب القياس مبينا أن ما استقر على لسانهم هو الأساس (٢). وبالمثل ينقل عنه فى باب الاستحسان وهو ما تكون علته ضعيفة غير مستحكمة مثل قولهم رجل غديان والقياس غدوان لأنه من قولهم غدوت (٣). ومن ذلك باب نقض المراتب إذا عرض عارض كتقديم المفعول به عل الفاعل (٤). ومن ذلك باب تلاقى اللغة ، يقول : «هذا موضع لم أسمع فيه لأحد شيئا إلا لأبى على رحمهالله» (٥) ويذكر مما جاء على لسانه منه أجمع وجمعاء وأكتع وكتعاء وأخواتهما فإن هذه الصيغة لا تأتى إلا صفة ، بينما هى فى تلك الأمثلة معارف.
__________________
(١) الخصائص لابن جنى (طبعة دار الكتب المصرية) ٣ / ٧٥.
(٢) الخصائص ١ / ١٢٥.
(٣) الخصائص ١ / ١٤٣.
(٤) الخصائص ١ / ٢٩٣ وما بعدها.
(٥) الخصائص ١ / ٣٢١.