ثم استثنى الحقّ سبحانه وتعالى مكانا خاصّا من عموم الأمة بقتل المحاربين في أي مكان ، وهو قتالهم في المسجد الحرام ، لأن من دخله كان آمنا ، فلا تقاتلوهم فيه حتى يقاتلوكم ، ولا تستسلموا لهم أبدا ، لأن الشّر بالشّر ، والبادئ أظلم ، فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم ، لأنّ سنّة الله أن يجازى الكافرون مثل هذا الجزاء ، وأن يعذبوا مثل هذا العذاب ، بسبب بدئهم بالعدوان ، وظلمهم أنفسهم ، فيلقون جزاء ما صنعوا.
فإن توقفوا عن القتال أو كفّوا عن الكفر والشّرك ، ودخلوا في دين الله ، فإن الله يتقبل أعمالهم ويغفر لهم ما تقدّم منهم ، لأنه غفور للسيئات ، رحيم بالعباد ، يمحو عنهم الخطيئات إذا تابوا وأنابوا إلى ربهم ، وأحسنوا واتّقوا : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٦] ، وتفسير المنتهى عنه فيه رأيان : ذهب ابن عباس إلى أن معنى الآية : فإن انتهوا عن القتال ، وذهب الحسن إلى أن المعنى : فإن انتهوا عن الشرك ، لأنه لا غفران لهم إلا إذا انتهوا عن الشرك: (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨].
وبعد أن بيّن الله بقوله أوّلا : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الإذن بالقتال أو البدء به ، ذكر الغاية من القتال : وهي إقرار مبدأ الحرية ، وألا يوجد شيء من الفتنة في الدين ، فقال : اقصدوا بقتالهم أن تزول الفتنة والكفر وأنواع الإيذاء والضّرر التي تلحق المسلمين بوجودهم في مكة ، وإزالة الفتنة : بألا تكون لهم قوة يفتنونكم بها في دينكم ، ويؤذونكم ، ويمنعونكم من إظهار دعوة الله تعالى.
واستمروا في قتالهم حتى يكون الدين من كل شخص خالصا لله ، لا أثر لخشية غيره فيه ، وحتى يكون الدين ظاهرا قائما تمارس شعائره ، دون خوف أو إرهاب أو استخفاء ، وحتى يأمن المسلم في الحرم ، فيعلن أمور دينه دون تهيب من أحد ، فيكون معنى (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) : أن يكون الله هو المعبود وحده.