من حملات التشويش والنقد والتشكيك ، فأوضح تعالى أن سفهاء الأحلام وضعفاء العقول والإيمان من طوائف اليهود والمشركين والمنافقين سيقولون منكرين متعجبين : أي شيء صرف المسلمين عن قبلتهم التي كانوا عليها ، وهي قبلة الأنبياء والمرسلين؟ أما اليهود فساءهم ترك الاتّجاه لقبلتهم ، وأما المشركون فقصدوا الطعن في الدين ، ورأوا ألا داعي للتوجه في الحالين ، وأما المنافقون : فشأنهم انتهاز الفرص لزرع الشكوك في الدين ، ومحاولة الإبعاد عنه بسبب هذا التغيير ، وعدم الاستقرار ، ومخالفة الأعراف السابقة بالاتّجاه لبيت المقدس.
فردّ الله عليهم جميعا بأنّ الجهات كلها لله ، ولا مزية لجهة على أخرى ، وليست صخرة بيت المقدس أو الكعبة ذات نفع خاص لا يوجد في غيرهما ، وإنما الأمر كله لله ، يختار ما يشاء ، وأينما تولوا فثّم وجه الله ، ومن مراده المطلق أنه يجعل للناس قبلة واحدة تجمعهم في عبادتهم ، وقد أمر الله المؤمنين في بداية الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس ، إعلاما بأن دين الله واحد ، ووجهة جميع الأنبياء واحدة ، وقصدهم الحقيقي هو الاتجاه إلى الله ، ثم أمرهم بالاتّجاه إلى الكعبة ، فامتثلوا الأمر في الحالين ، لأن المصلحة فيما أمر الله ، والخير فيما وجّه ، والله يرشد من يشاء إلى الطريق الأقوم المؤدي لسعادة الدنيا والآخرة ، سواء بالتوجه إلى بيت المقدس أو بالاتجاه إلى الكعبة.
ثم خاطب الله المؤمنين ممتنّا ومتفضلا عليهم قائلا لهم : (وَكَذلِكَ ..)(١) أي كما هديناكم إلى الصراط المستقيم وهو دين الإسلام ، وحولناكم إلى قبلة إبراهيم عليهالسلام واخترناها لكم ، جعلنا المسلمين خيارا عدولا ، فهم خيار الأمم والوسط في الأمور كلها بلا إفراط ، ولا تفريط ، في شأن الدين والدنيا ، وبلا غلو
__________________
(١) كذلك : الكاف للتشبيه ، وذلك : اسم إشارة ، والكاف في موضع نصب إما لكونه نعتا لمصدر محذوف ، وإما لكونه حالا ، والمعنى : جعلناكم أمة وسطا جعلا مثل ذلك.