وفي الحق إذ ننظر إلى جوّ الحديبية نرى الانتصار ظاهرا في صلحها ، حيث المشركين ـ وهم أكثر بكثير ـ هم المقدمون على ذلك الصلح ، الواعدون الرسول ـ ضمن ما وعدوه في وثيقة الصلح ـ أن يزوروا البيت في العام القابل ثلاثة أيام ، ولم يخطر بخلدهم أنهم على قلّة عددهم وعددهم يرجعون عن هذه السفرة سالمين : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) وقد رجعوا منتصرين.
وإنها لموقف القوة والشوكة الإسلامية ، الشائكة كالنيازك النارية في عيون المشركين ، التي تبشر بفتح مكة لهم (آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) إذ اعترفت حينه قريش بالنبي والإسلام ، والقوة الهائلة لنبي الإسلام ، والتماسك المتين بينه وبين المؤمنين ، فاعتبرت المسلمين أندادا لهم ، فدفعتهم بالتي هي أحسن ، في حين أنها غزت المدينة قبلها في سنتين مرتين .. فهذا فتح مبين للمؤمنين ، مهما خفي على سواهم.
وفتح آخر هو أقوى : تفتّح قلوب كثير من المشركين بقبول الإسلام ، فتحا للدعوة والداعية ، حيث أمن المتحاربون بعضهم بعضا ، فالتقوا وتفاوضوا ، فأسلم في هذه الفترة القصيرة طوعا ، أضعاف ما كان مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديبية ، إذ كانوا ألفا وأربعمائة ، ثم خرجوا عام الفتح وهم عشرة آلاف ،
__________________
ـ بها الرسول (ص) من جديد.
وحيث أن الرسول (ص) أجاب عمر بعد تركه ثلاث مرات ـ أجابه بنفس السورة ـ نتأكد هذا الأمر ، وان عمر كان قبل هذه الأسئلة يخاطب الرسول (ص) في حمية وتعنت. وقد أخرج ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وابو داود والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود (رض) قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله (ص) فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله فأخبرنا انه أنزل عليه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).