فلا أقرب إلى الإنسان من خالقه ، قرب القيومية العلمية وفي القدرة ، مهما بعدت ذاته عن ذاته وصفاته عن صفاته ـ إذ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فهو ـ إذا ـ قريب إلينا في بعده ، وبعيد في قربه ، داخل في الأشياء لا بالممازجة ، كدخول شيّ في شيء ، وخارج عن الأشياء لا بمزايلة ومجانبة ، كخروج شيّ عن شيء ، بل هو داخل علما وقدرة ، خارج ذاتا وصفات ، باين الأشياء بينونة ذات وصفة ، لا بينونة عزلة! ف (نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) : إلى روحه وجسمه ، إلى عقله ونفسه ، إلى وسواسه وهواجسه بأسبابها ، واليه كله (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) : وريد الحياة ، ولكونه أقرب ف (اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (٨ : ٢٤) فهو أقرب اليه من قلبه ، وهو يعلم منه أخفاه ، ولا يعلم الإنسان إلا سره لا أخفاه : (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٢٠ : ٧) فالسر ما يكنه من خابية ، وأخفى منه ما لم يكنه بعد ، ما سوف يكنه ولا يعلم قبل!.
إن الوسوسة : الخطرة الرديئة ـ وأصلها صوت الحلي والهمس الخفي ـ هي أخفى صنوف العلم : الخطرة النفسانية الخفية ، ومنها الوسوسة في المعاد ، فالله الخالق يعلم نشأة الوسواس كلها (ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) فالنفس توسوس نفسها وتوسوس العقل بأسباب وآلات ، قد تجهل هي تلكم الأسباب ، ولكن الله يعلمها بمواليدها ، فلم يقل (ويعلم وسوساتها) وإنما (ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) إيحاء بعلمه بكلا السبب والمسبب ، فان الباء هنا للآلة او السبب : ما توسوس بسبب نفسه.
ولقد وسوست انفس هؤلاء الناكرين عقولهم المعقولة بالهوى ، وقلوبهم المقلوبة عن الهدى ، وسوست في أمر المعاد أم ماذا؟ وترى بماذا؟ بالوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ، فما لم يكن قبول من النفس ، لم تحصل وسوسة ، أو لم تؤثر اثرها ، فالشيطنات بأنواعها هي آلات يتذرعها النفس لحصول الوسوسات ومفعولاتها ، والله يعلمها بأسبابها : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)!
ان هناك في جسم الإنسان حبالا شتى تنقل الدم إلى شتى أجزاءه وأعضاءه