(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) :
إن واقعة الموت راحة للمؤمنين ، وسكرة وزعجة للفاسقين ، الذين عاشوا حياتهم سكرات : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٥ : ٧٢) سكرة فردية لفرادى الأموات ، وجماعية للجماعات كما في النفح الأول : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢٢ : ٢).
وترى كيف يصبح الموت للغافلين سكرة وهو قفزة إلى حياة أخرى؟ إنه سكرة لانشغال سكراته بنفسه عما سواه ، في رجفة مفاجئة فاجعة تدب في الأوصال ، تفصله عن حياة انيسة بين شغل وأهل ومال ، إلى حياة بئيسة تعيسة في أهوال وأوحال ، فهل هناك صيغة أدل من «سكرة» على هذه الحال؟!. (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) (٦ : ٩٣) غمرات في سكرات! : الكروب التي تتغشى المحتضر عند الموت فيفقد تمييزه ، ويفارق معه معقوله وكأنه سكران الخمر! إلا أن هذه منعمة منعشة وتلك مؤلمة موحشة!.
وإنها «جاءت» دون حاجة لأن تجيئها أنت ، فإنك في الموت محتار لا مختار ، وحتى الموت الذي أنت تختار ، فالله هو المميت لا أنت ، مهما قدمت نفسك لأسبابه ، ولست بمقدمها ـ ف (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)!
وإنها (سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) : بسبب القضاء الحق فإنه من قضاء الله ، وبارادة الحق ، فإنه من فعل الله ، وهي تصاحب إرادة الحق : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ..) ومن ثم الجزاء الحق في رحاب الحق! (١)!
و «ذلك» : البعيد عن رغبتك ، الشديد في رحلتك «ما كنت» طول حياتك الميتة «منه» ـ فقط ـ لا سواه (٢) «تحيد» حيد الفرار.
__________________
(١) فالباء في «بالحق» لكلا السببية والمصاحبة ـ ثم الأولى أعم من العلة الموجدة والعلة الغائية ـ فان الغاية من الموت ايضا حق : تأمل.
(٢) يستفاد الحصر من تقديم الظرف «منه» على فعله «تحيد».