معنويا فهو ينزل من سموّ الربوبية ، من مكانة عاليه وإن لم يكن من مكان عال : اللهم واجعل ما صرحت به من عدتك في وحيك ، وأتبعته من قسمك في كتابك ، قاطعا اهتمامنا بالرزق الذي تكفلت به ، وحسما للاشتغال بما ضمنت الكفاية له ، فقلت وقولك الحق ووعدك الصدق ، وأقسمت وقسمك الأبرّ الأوفى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) ثم قلت : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(١).
ترى إذا كان رزقنا في السماء ، أليس علينا ابتغاؤه بالكدح والسعي؟ أن تبقى مكتوفي الأيدي عن كل شغل ، او ان نكتفي بالتماس الدعاء؟!
كلا! ف (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) حياة السعي والكدح في ابتغاء الأرزاق المادية ، وبأحرى المعنوية! اعتبارا أنه من أسباب إدرار الرزق على قدر معلوم (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) : معلوم حسب الحكمة البالغة (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٤٢ : ٢٧) فليست سعة الرزق للبغاة المحتكرين ، مصّاصي دماء المظلومين ، ليست هي من عند الله تشريعا أو تقديرا منه من عنده ، وإنما بما طغوا وبغوا فامتلكوا أموال الشعوب واستغلوا طاقاتهم واستثمروهم ، وإنما الله لا يمنعهم تكوينا بعد منعهم تشريعا ، إذ «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» .. فالرزق ينزل من عند الله بقدر معلوم حسب الحكمة ، ومعلوم قدر السعي ، متكلين على الله في ابتغاء ما عنده ، دون استقلال للاتكال فنبقى دون سعى ، ولا استقلال للسعي فنبقى دون اتكال ، وإنما أمر بين مرين : لا اتكالية ولا استقلالية.
ثم وليس في إلفات النظر الى رزق السماء إهمال الأرض وأسبابها ، وانما مزج
__________________
(١) الصحيفة السجادية عن الامام علي بن الحسين السجاد (ع).
(الفرقان ـ م ٢١)