وهنا التعبير بالفرار لطيف جدا ، وعجيب حقا ، فهو يوحي بالأثقال والأغلال التي تثقل وتغل النفوس البشرية إلى هذه الكائنات الحقيرة الفقيرة ، فتأسرها عن الانطلاق ، ونحصرها في عقال الأوهاق ، وتنسي أخيرا أن لها ربّا!
فلا بد ـ لكي نتحلل عن أسرها وحصرها ـ أن نعرفها أولا بالفقر والعدم الذاتي ، ثم نفر بكل ما نملك من سرعة وجلادة ، إلى الله الذي خلقها ويفيض لها دائبا ، نفر بأجنحة العقل واللّب والعلم ، مستخدمين كافة الطاقات ، ولكي لا نرجع مغلولين لو تباطانا في السير ، أو أخطأنا المسير ، والله هو الولي القدير ، (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ ...):
ثم الفرار إلى الله درجات ، كما الفرار عنه دركات ، فأولى درجات الفرار إلى الله رفض الشركاء والأنداد عنه ، وأشرفها وأولادها الفرار عما سوى الله ، وعن نفسك أيضا ، إلى الله ، وإلى حد الدنو والتدلي (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) أن يصبح كله معرفة لله ، وعبادة لله ، ناسيا نفسه إلا تذرعا بهما إلى ابتغاء مرضاة الله ، ومن صح فراره إلى الله صح قراره مع الله ، فلا تجد فيه حالة مع من سوى الله إلا الفرار ، ومع الله إلا القرار.
(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) : فتعدد الآلهة يزيف مكانة الألوهية ، ويجعل كلا من الشركاء قرينا وزوجا للآخر ، فيعود الكل محتاجين كالخلق ، نتيجة الزوجية والتعدد : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) : الآلهة إلا الله ، كما فسدتا الأرض والسماء ، فكيف يكون التركب وازدواجية الكيان دليلا على الفقر والحدوث في غير الآلهة ، وليس فيهم أنفسهم؟!.
(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) : قولة كافرة ساخرة مائرة من مكذبي الرسل طوال التأريخ ، كأنهم تواصوا بها