فتزيح كافة أعذار العصيان من البين ، عن الرسول كمتبوع ، وعنهم كأتباع ، ليبقى المكذبون به مدحضين.
(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ)
عليك التذكير ما نفع ، وإن كان كحجة قاطعة العذر على الشاردين ، مهما تقولوا عليك بتهمة الكهانة أو الجنون (١) فلا يثنك عن واجب التذكير فريتهم الحمقاء السوء التي ترجع إليهم بكل فضيحة وتبوء.
ترى أن نعمة الوحي الرباني المحمدي ، وهي أنعم النعم الروحانية ، اللائحة من أقواله وأفعاله ، هل إنها تسبب الكهانة أو الجنون ، أو تصاحبهما (٢)؟ إذا فنقمة الوحي الشيطاني الواضحة في المفترين هي التي تعارضهما وتفاصلهما؟ فما أجن وأكهن هؤلاء الحماقى ، فإذ لا يجدون مناصا عن حجته البالغة ، يتهمونه بالكهانة والجنون ، اللذين يطاردهما بالوحي الحنون ، وان العجب ليأخذ كل من درس شيئا عن سيرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من تقولهم هذا ، وهم الذين عرفوه برجاحة العقل والأمانة بينهم حتى لقبوه بمحمد الأمين ، ثم إذ بعث بما لا يلائم شهواتهم وحرياتهم اتهموه وبهتوه.
والفرق بين الكهانة والجنون ، أن الثاني فقدان العقل فلا تنضبط أفكاره وتصرفاته ، والأول الإخبار بالأخبار الخفية الماضية والمستقبلة بضرب من الظن ، الصادرة عن الشياطين المسترقين السمع المرجومين ويعرفان بمناقضة كل مع نفسه ، ومع الواقع والعقل ، فأين المناقضة من هذه وتلك في مقالات الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأفعاله لكي يستحق تهمة الكهانة أو الجنون؟!
(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) : شاعر لا مخلص منه إلا أن نتربص به اضطراب الموت ، فإنما بموته ، وبموته فقط ، يموت ذكره ، وتموت
__________________
(١) راجع سورة القلم ص ٥٩ ج ٢٩ من الفرقان.
(٢) الباء هنا محتمل الوجهين : السببية والمصاحبة ، بسبب النعمة او مصاحبتها.