وكما يروى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : «قربني ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى» (١).
فالتدلي هو التعلق ، فقد يكون مشوبا وقد يكون محضا خالصا ، وصاحب المعراج بعد أن دنى الى الله خالصا ، كذلك تدلى بالله خالصا ، متناسيا ما سوى الله وحتى نفسه ، متحللا متخليا عن الكائنات الى رب الكائنات ، وهذا هو الفناء في الله ، أن يصبح العبد كأنه لا شيء ، او انه لا شيء ويرى ربه انه الشيء وليس سواه شيء ، هذا! لا الذي يدعيه من يتسمون ارباب الكشف والشهود ، ان الفناء في الله هو ان يصبح العبد إلها من شدة قربه او خلطه بربه ، كما يصبح الفحم نارا إذ تشمل كيانه كله ، وهذا إلحاد في الله ، ترفيعا للعبد الى درجة الالوهية ، وتنزيلا للرب الى منزلة العبودية!
وإنما الحق شعور العبد في سيره الى الله انه لا شيء ، ثم التدلي بالله وهو مقام او أدنى ، فكما الله أدنى إلينا منا علميا وقيوميا ، فلنكن نحن اقرب اليه منا الى أنفسنا ، وهذه المرحلة من المعرفة لا تتيسر إلا لصاحب المعراج محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
لقد كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وقبل معراجه ـ اقرب المقربين الى الله ، لا يحجب بينه وبينه حجاب وهو في الأرض ، إلا أن طبيعة الحال تقتضي في معراج هكذا ، والى الأفق الأعلى ، واضعا قدميه على كاهل الكون ، تاركا ما سوى الله تحت قدميه وبقالبه ، بعد أن كان تاركا لها بقلبه ، منعزلا وحتى عمن أرسل إليهم ، إن هذه الحالة التجردية تقتضي أن يكون هناك من ربه قاب قوسين او ادنى ، دون أن يبقى أي حجاب وحتى حجب النور : من صحبته المرسل إليهم ، ومن ممارسته حاجيات الأرض ، ومن نفسه المقدسة ، حيث خرقها كلها متناسيا لها ، فاتصل بمعدن العظمة فرأى ما رأى ، ومن آيات
__________________
(١) تفسير روح البيان لإسماعيل حقي ج ٩ : ٢١٩.
(الفرقان ـ م ٢٦)