فلو انحصرت السبيل إلى تحصيل الأحكام بالعلم ، حصرت الأحكام في قليل من الضروريات الثابتة قطعيا ، ورفضت الأكثرية الساحقة منها عن ميادين العمل ، وبطلت الشريعة في قسم كبير من فروعها ، وليس في سماح العمل بهذه الظنون تخصيص في عمومات الآيات الناهية عن العمل بالظنون ، فإنها آبية عن التخصيص ، وآئبة إلى ظنون الجهل والهوى فلا حاجة إلى تخصيص.
ومن وصمات الظنون المرفوضة انها لمن تولى عن ذكر الله ولم يرد إلّا الحياة الدنيا ، فهم يرفضون الهدى إلى الردى ، والعلم إلى الظن ، وقد جاءهم من ربهم الهدى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا. ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى).
«ذلك» : ـ الظن البعيد البعيد ـ (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ، يحسبونه علما ، وليس إلّا وهما لا يملك برهانا ، فلا يغني من الحق شيئا ،
فإذا أصبحت الدنيا مبلغ العلم ، وأكبر الهمّ ، أصبح طالبها كالأنعام وأضل سبيلا ، اللهم «لا تجعل الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا» (١).
__________________
ـ فإنها لا تفيد الظن إطلاقا ، فإذا كنت على ظن من نجاسة شيء من دون حالة مسبقة ، تجري هنا قاعدة الطهارة وتحكم بها ، وفي اعتقادك الراجح انه غير طاهر ، وقد تمر عليك تفاصيل عن الحجج الشرعية في مجالاتها الأنسب والأوسع.
وأما الآراء الناتجة عن القياسات والاستحسانات وسواها مما لا أثر له في الدين ، فكلها باطلة ، ومن لطيف ما يروى ممن رأى آراء في الدين من هذا القبيل ما أخرجه ابن أبي حاكم عن عمر بن الخطاب قال : احذروا هذا الرأي على الدين فانما كان الرأي من رسول الله (ص) مصيبا لأن الله كان يريه وانما هو ها هنا تكلف وظن ، (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) لدر المنثور ٦ : ١٢٧).
(١) الدر المنثور ٦ : ١٢٧ ـ اخرج الترمذي وحسنه عن ابن عمر قال : قلما كان رسول الله (ص) يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه : «اللهم اقسم من خشيتك ما يحول ـ