(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ..)
«هو» الله (أَعْلَمُ بِكُمْ) منكم ومن سواكم من العالمين في ملأ العالمين ، (أَعْلَمُ بِكُمْ) : بذواتكم وصفاتكم وأفعالكم وطوياتكم وكلّ كيانكم إسرارا وإعلانا.
(أَعْلَمُ بِكُمْ) إذ لم تكونوا شيئا مذكورا : (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) كما أنشأ آدم الأوّل من طين لازب ، ثم أنشأ ذريته ـ كذلك ـ من أجزاء الأرض إذ خلق منها نطفته ، ورباها في الأرحام وقواها بمواد الأرض ، و (أَعْلَمُ بِكُمْ) كذلك إذ كنتم شيئا مذكورا : (إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) إذ لم تكونوا لتعلموا شيئا ، وإلى ان أخرجكم : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (١٦ : ٧٨).
ترى كيف تصح صفة التفضيل في العلم : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) حين إذ لا علم للمفضل عليه : (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ)؟!.
علّه لأن «أعلم» لا تختص بالحالتين الجاهلتين ، فإنها شاملة للحالات كلها ، وإلى أعلى درجات العلم ، كما تشمل أدنى دركات الجهل ، وقد توحي به «كم» فأحرى أن تشمل حالة الشعور العلم ، لكي يصلح للخطاب ، وإنما ذكر حالتا الجهل اللّاشعور : (أَنْشَأَكُمْ .. أَجِنَّةٌ) ذكرتا دون حالة العلم؟ إذ لا مماراة في جهلها المطلق : حين الإنشاء والأجنة ، اضافة إلى أنهما تحملان حجة للأفضلية : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) فان المنشئ للشيء لا يعزب عن علمه منه شيء ، والجنين المستور عن كل فاعل ومحاول ، العاجز عن تدبير أمره ، لا يعلم من نفسه وسواه شيئا ، كما لا يعلمون عنه شيئا ، والله المنشئ البارئ للجنين هو الذي يعلم منه كل شيء ، فهما إذا حجتان للأعلمية الشاملة الإلهية بنا (١) ، وفيما نعلم الكثير
__________________
(١) ف «إذ» هنا وهناك تحمل معنى الزمان والتعليل ، هو أعلم بكم حين أنشأكم و .. ولأنه أنشأكم ـ فان المنشئ أعلم من المنشأ وان كان هو أيضا عالما ، أفضلية الخالق من المخلوق.