الكثير في زعمنا! ولكن أين علم من علم! علم سابق شامل ، وعلم لاحق جاهل ، فمهما علمنا أشياء ، نجهل آلاف الأضعاف أشياء! علم ذاتي جوهري ، وعلم عارضي ، علم لا يخالطه جهل ، وعلم أكثره جهل ، علم حادث يزول ، وعلم أزلي لا يزول ؛ ما يحق أن يقال: علم مطلق وجاه جهل مطلق! ولكن الله يمن علينا إذ يصفنا بصفة العلم ، ثم يفضل نفسه علينا فيه كما في سواه ، رغم التباين الكلي بين صفاته وصفاتنا ، كما وبين ذاته وذواتنا!
(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) توحي أن التقوى هي السبب الوحيد للتزكية الحقيقية ، والإنسان المنشأ من الأرض بطبعه يميل ويثّاقل إليها إلّا من هداه الله واهتدى وسلك سبيل التقوى ، وجانب وبيل الطغوي فلأنه (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) بكونكم وكيانكم كما أنتم (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) : ادعاء أنني بريء من وصمات الطغوى ، ومليء بسمات التقوى.
والتزكية ، وهي التحرّي عما فيه التطهير عن الأدناس الخلقية والعقائدية والعملية ، إنها كما تنسب إلى العبد ، كذلك إلى الله وإلى رسل الله الحاملين رسالات الله ببلاغات التزكية للمرسل إليهم ، وسواء في ذلك القول أو العمل والسعي ، إن كان في الدنيا أم في الآخرة.
فالتزكية العملية في نطاق التأييد والتوفيق دنيا ، وفي التكفير عن السيئات دنيا وعقبى ، إنها خاصة بالله تعالى شأنه ، وكما أن القولية منها شهادة على النزاهة الصادقة ، ولا تعتبر الّا منه أو بوحي منه ، فإن المكلف قد يجهل أخطاءه العامدة منها أو الساهية ، فلا يحق له اعتبار نفسه مزكيّ إلّا بشهادة الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٤ : ٤٩).