التأويل في كتاب الله تعالى دالة على أن الله تعالى لم يرد إيمان الكفرة وطاعة الفجرة؟ فإن عم الأمر تعلقا ، ودلت الآيات التي نستمسك بها على أنه سبحانه أراد ضلال من ضل وهدي من اهتدى ، فيبطل ذلك ما موهوا به.
ومن الدليل على ذلك ، أن الواحد منا لو قال لعبده : قد أزحت علتك ، وقويت منّتك ، وأتممت عدتك ؛ حتى لا تألوا جهدا في اقتناء الخيرات ، والتسرع إلى القربات ، وسد الثغور ؛ مع علمي قطعا بأنك تفجر وتقطع الطرق ، وتسعى في الأرض بالفساد ، وتستعين بما أمددتك على خلاف الرشاد ؛ فيعد ذلك متناقضا عرفا وإطلاقا. والرب تعالى على أصول المعتزلة يريد صلاح من يمهله ، ويعلم أنه في إمهاله يسعى على الردى ويتبع الهوى ، ولو اخترم قبل حلمه لفاز ونجا. فإن لم يكن ذلك متناقضا عندهم إذا قدر في أمر الله ، فلا تناقض فيما ادعوه.
ومما يتمسكون به كثيرا ، أن قالوا : الإرادة تكتسب صفة المراد بها ، فإذا كان المراد سفها كانت الإرادة سفها ، وهذا من تخييلهم العريّ عن التحصيل ؛ فهم مطالبون بالدليل عليه ، غير مخلين بالاقتصار على محض الدعوى.
ثم لو كانت إرادة السفه سفها ، لكانت إرادة الطاعة طاعة ، ويلزم من مضمون ذلك أن يكون الرب تعالى مطيعا لإرادته الطاعة ، وهذا خروج عن إجماع المسلمين وانسلال عن ربقة الدين. ثم الإرادة عندنا أزلية ، وإنما يتصف بالسفه ونقيضه الحادث المبتدأ. والذي يحقق ذلك أن من تكسب علما بالفواحش وفجور الفجرة ، من غير حاجة ماسة إليه ، فذلك سفه منه ؛ والرب تعالى عالم بجميع المعلومات خيرها وشرها ، ولا يتصف في كونه عالما بما يتصف به من تكسب العلم منا.
فهذه قواعد شبههم ، وفي التنبيه عليها وطرق الانفصال عنها إرشاد إلى ما عداها.
فصل
استدل المعتزلة بظواهر من كتاب الله تعالى ، لم يحيطوا بفحواها ، ولم يدركوا معناها. منها قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [سورة الزمر : ٧]. وفي الجواب عن هذه الآية مسلكان : أحدهما الجري على موجبها ، تمسكا بمذهب من فصل بين الرضا والإرادة ؛ والوجه الثاني حمل العباد على الموفقين للإيمان الملهمين للإيقان ، وهم المشرفون بالإضافة إلى الله سبحانه ذكرا. وهذه الآية تجري مجرى قوله تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [سورة الإنسان : ٦] ؛ فليس المراد جميع عباد الله ، بل المراد المصطفون المخلصون للنعيم المقيم.
ومما يستروحون إليه قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) [سورة الأنعام : ١٤٨] الآية. قالوا : فوجه الدليل من هذه الآية ، أن الرب سبحانه أخبر عنه ، وبيّن أنهم قالوا لو شاء الله ما أشركنا ، ثم وبخهم ورد مقالتهم ؛ ولو كانوا ناطقين بحق ؛ مفصحين بصدق ؛ لما قرعوا.