قلنا : إنما استوجبوا التوبيخ ، لأنهم كانوا يهزءون بالدين ويبغون رد دعوى الأنبياء ، وكان قد قرع مسامعهم من شرائع الرسل تفويض الأمر إلى الله تعالى ، فلما طولبوا بالإسلام والتزام الأحكام تعلقوا بما احتجوا به على النبيين ، وقالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) [سورة الأنعام : ١٤٨] الآية ، ولم يكن من غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم. والدليل على ذلك في سياق قوله تعالى : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [سورة الأنعام : ١٤٨]. وكيف لا يكون الأمر كذلك ، والإيمان بصفات الله تعالى فرع عن الإيمان بالله تعالى ، والكفر بالآية كفر بالله تعالى!.
ومما يستذلون به العوام الاستدلال بقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات : ٥٦]. وهذه الآية عامة في صيغتها ، متعرضة لقبول التخصيص عند القائلين بالعموم ، مجملة عند منكري العموم. ولا يسوغ الاستدلال في القطعيات بما يتعرض للاحتمال ، أو يتصدى للإجمال. ومن مذهب المعتزلة ، أن العموم إذا دخله التخصيص صار مجملا في بقية المسميات ، ولا خلاف أن الصبيان والمجانين مستثنون من موجب الآية تخصيصا.
ثم قد قيل : إن المراد من الآية تبيين غنى الله تعالى عن خلقه ، وافتقارهم إليه ، فهذا هو المقصود ، وآية ذلك قوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [سورة الذاريات : ٥٧] ؛ فكأن معنى الآية : وما خلقت الجن والإنس لينفعوني ، وإنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي.
ثم أصل العبادة التذلل ، والطريق المعبّدة هي المذللة بالدوس بالخف والحافر وأقدام المستطرقين ، والمراد بالآية : وما خلقتهم إلا ليذلوا لي. ثم من خضع فقد أبدى تذلله ، ومن عاند وجحد فشواهد الفطرة واضحة على تذلله وإن تخرص وافترى. والحمل على ذلك أفضل من الحمل على تناقض ؛ فإن الرب تعالى علم أن معظم الخليقة يكفرون ، فيكون التقدير : وما خلقت من علمت أنه يكفر إلا ليوفق ، وهذا لا وجه له.
ومما يستدلون به قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [سورة النساء : ٧٩]. قلنا : الآية المتقدمة على هذه الآية دلالة قاطعة على إبطال مذهبكم ، فإنه عز من قائل قال : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [سورة النساء : ٧٨]. ثم لفظة الإصابة شاهدة على سلب الاختيار ، فإنها لا تستعمل إلا فيما ينال المرء من غير ارتياده ؛ ولا يقال أصاب فلان المشي والتصرف ، بل يقال أصابه مرض أو سرور أو جنون.
ثم المراد من الآية أن كفار قريش كانوا إذا قحطوا وزلزلوا ، قالوا : ذلك من شؤم محمد ودعوته ، فإن وسع عليهم قالوا : ذلك منا ومن آلهتنا ، فرد الله تعالى عليهم وخاطب رسوله عليهالسلام ، وهم المعنيون ، فقال : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) ، معناه من نعمة ، فمن الله ؛ وما أصابك من سيئة ، أي من ضيق ، فهو جزاء عملك. على أن المعتزلة لا يقولون بظاهر الآية ، إذ الخير والشر