التكليف أن يعتقد المكلف لزوم ما ألزم ، وفي وجوب الاعتقاد عليه وإلزامه العقاب ، لو لم يعتقد لزوم ما ألزمه ، تعريضه لمشقة لا خفاء بها.
ثم الغرض من التكليف ، التعرض للثواب. وإنما يحسن في العقل على أصل التحسين الإثابة على مشاق من الأعمال ؛ فإن جاز حزم حكم العقل في الإثابة على لذات عرية عن المشاق ، ساغ أيضا نقض ما أصلوه بناء على تقبيح العقل الإيلام.
فإن قالوا : فوض الرب تعالى إلزام التكليف إلى خيرة الأرواح ، قيل لهم : إذا قبح الألم من غير استحقاق ، قبح التعريض له والتخيير فيه ، ولا محيص لهم عما ألزموه.
ثم لنا بعد ذلك مسلكان : أحدهما ، نسبتهم إلى جحد الضرورة في قولهم : إن البهائم تعقل ، ويدعوها نبيها فتفهم تبليغ الرسالة. وذلك جحد للضرورة ؛ فإن مجوز ذلك يجوّز أن تكون الذباب والديدان مفكرة في دقائق العلوم ، يفهم بعضها من بعض التعريض للحجاج والاستدلال والسؤال والانفصال ، وذلك أمر هزء لا يلتزمه لبيب. والمسلك الثاني ، أن تثبت عليهم الشرائع إن لم ينقلوها ، فإذا ثبتت الشرائع ترتب عليها بطلان مذاهبهم المجانبة لموارد الشرع. فهذا القدر كاف في محاولة الرد عليهم.
وأما المعتزلة ، فقد ذكرنا أنهم صاروا إلى أن الإيلام يحسن لوجوه ، ولو عري عنها وعن آحادها ، لكان قبيحا. ونحن الآن نتعقب تلك الوجوه بالنقض والرفض واحدا واحدا.
فأما قولهم : الألم يحسن بكونه عقابا على أمر فارط ، فهم فيه منازعون ، وإلى الدليل عليه مدعوّون. فيقال لهم : لم قلتم إن الألم يحسن إذا كان عقابا؟ فإن قالوا : إنما قلنا ذلك لقضاء العقل بأن من ظلم وبغي عليه وأولم ابتداء أو اعتداء ، فيحسن منه الإنصاف ممن ظلمه وعدا عليه. وإذا أساء العبد أدبه ، لم يقبح عند العقلاء زجره. قلنا : ثم تنكرون على من يزعم أن ذلك إنما لم يقبح لاستفادة المنتصف بانتصافه ، شفاء غليله ودرء الحنق والمغايظ عن نفسه ، فيرجع ذلك في التحصيل إلى دفع ألم بألم. وكلامنا في إيلام الرب تعالى من شاء مع استغنائه عنه ، وتعاليه عن الحنق والغيظ والاحتياج إلى تبريد الغليل. فهلا قلتم : لا يحسن منه الألم مع استغنائه عنه وعدم احتياجه إليه ، ولا يجري حكمه في ذلك مجرى حكم العباد! وهذا مما لا محيص لهم منه.
فإن قالوا : الرب تعالى وإن كان غنيا عن معاقبة المجرمين ، فلو ترك معاقبتهم لكان ذلك إغراء بالفواحش وارتكاب الجرائر والكبائر. وهذا الذي ذكروه يبطل عليهم بقبول التوبة ؛ فإنه حتم في حكم الله تعالى عندهم ، وفيه إغراء بالذنب فإن مقارفه يتجرأ عليه لاعتقاد قبول توبته عن حوبته إذا تاب وأناب. وسنعود إلى ذلك في باب الثواب والعقاب. وهذا القدر كاف في غرضنا في هذا الوجه.
وأما قولهم : إن الألم يحسن للتعويض عليه بنعيم يربى عليه ، فباطل من وجهين.