في عادات العقلاء قبيحا نازلا منزلة ما لو جرح السليم نفسه من غير غرض صحيح في جلب نفع أو دفع ضر. ومن أنكر ذلك انتسب إلى جحد الضرورة.
ثم يقال لهؤلاء : الخير والميل إليه مدعو إليه أم لا؟ فإن أنكروا كونه مدعوا إليه ، تركوا مذهبهم ، من حيث العقل على الخيرات ، وتحذيره من السيئات. وإن قالوا الخير محثوث عليه ، قيل لهم : هل على من يحيد عنه ملام وآلام على حكم العقاب أم لا؟ فإن قالوا : لا يلزم شرير عقابا ، فقد جروا على ملابسة الشر ومجانبة الخير ، والتزموا أن لا يلام مسيء ، ولا يخص بحسن الثناء عليه. وكل ذلك يبطل ما يستروحون إليه من تحسين العقول وتقبيحها ، وإن قالوا : لوم المسيء وإيلامه ، وتعريضه للغموم والهموم حسن ، فقد نقضوا قولهم بأن الألم يقبح لنفسه.
فصل
وأما البكرية ، فقد جحدوا الضرورة وراغموا البديهة. فإنا على اضطرار نعلم تألم البهائم والأطفال وقلقها عند إلمام الآلام بها ، ونفورها عما تعلم أنه يؤلمها. ولو ساغ جحد ذلك منها ، لساغ جحد حياتها ، والمصير إلى أنها جمادات لا تحس ولا تألم ولا تدرك ؛ وهذا القدر مغن في الرد عليهم.
وأما أهل التناسخ ، فإنما حملهم على ما أبدعوه وشقوا به العصا أمر يلزم المعتزلة ، وكلّ قائل بتقبيح العقل وتحسينه. فإنهم قالوا : الابتداء بالإيلام من غير عوض قبيح ، ولا يحسن أيضا التعويض عليه مع القدرة على التفضل بأمثال العوض وأضعافه. ولا يحسن أيضا قصد اعتبار غير المؤلم ، إذ يقبح إيلام زيد ليعتبر عمرو ؛ فلا يبقى وجه يحسّن الإيلام إلا تقديره عقابا على أمر سابق ، وذلك يستدعي لا محالة تقدم التكليف وفرض مخالفة فيه ، وجريان الألم المتأخر عقابا على ما فرط.
وسنوضح توجه كلام التناسخيين على المعتزلة. ولكنا نقول لهم : ما قولكم في ابتداء التكليف؟ فإن قالوا : إن الرب تعالى ابتدأ تكليف ما في امتثاله مشقة ، فقد صوروا إيلاما وآلاما من غير اجترام ، ونقضوا ما أصّلوه من كل وجه. فإن راموا من ذلك مخلصا ، وقالوا : إنما حسن إلزام الآلام ابتداء للثواب اللازم العظيم شأنه. فنقول لهم : هلا حسنتم إيلام البهائم والأطفال لأعواض عليها؟ فإن قالوا : التفضل بمثل العوض جائز ، والتفضل بمثل الثواب ممتنع ، كان ما ذكروه تحكما ؛ فإنه ما من مبلّغ إلى النعيم ، إلا والرب سبحانه قادر عليه ، متفضلا ومثيبا ومعوضا ، وسنشير إلى ذلك عند الكلام على المعتزلة.
وإن قالوا : ما كلف الله العباد ما فيه مشقة ، فالذي ذكروه باطل ؛ بأنه لو لم يكلف العباد ما فيه مشقة لم يجز تكليف أصلا ، وكان الأمر مهملا سدى. فكيف يتصور الاجترام؟ ومن أي وجه استحقت الآلام؟ وكيف يستقيم ذلك ممن يبني قاعدة مذهبه على التحسين والتقبيح؟ وإن قالوا : كلف الرب تعالى العباد ملاذّ لا مشقات فيها ، قيل لهم : هذا محال ؛ فإن من ضرورة الإلزام في حكم