وإنما الاختلاف في فعل الأصلح في الدنيا. وهذا النقل فيه تجوز ، وظاهره يوهم زللا ، وقد يتوهم المتوهم أنه يجب عند البصريين الابتداء بإكمال العقل لأجل التكليف ، وليس ذلك مذهبا لذي مذهب منهم. والذي ينتحله البصريون ، أن الله تعالى متفضل بإكمال العقل ابتداء ، ولا يتحتم عليه إثبات أسباب التكليف ، فإذا كلف عبدا فيجب بعد تكليفه تمكينه وإقداره ، واللطف به بأقصى الصلاح ؛ فهذا معنى قول الأئمة في نقل مذهبهم.
ومما اتفقوا على وجوبه إحباط الطاعات بالفسوق ، وقبول التوبة ، إلى غير ذلك مما استقصيناه في الشامل.
وغرضنا الآن أن نقيم واضح الدلالة على البغداديين فيما غلوا به. فإذا أوضحنا الرد عليهم ، انعطفنا على البصريين ، ولبسنا فريقا بفريق بسبيل التحقيق. حتى إذا التبسا ، استبان الموفّق خلوص الحق من خبطهم ، والله المعين.
فمما نستدل به على البغداديين ، بعد أن نسلم لهم جدلا تقبيح العقل وتحسينه ، أن نقول : مقتضى أصلكم ، أنه يجب على الله تعالى أقصى ممكن في كل استصلاح ، فإذا روجعتم فيما انتحلتموه ، فزعتم إلى أمثلة في الشاهد توهمتهم فيها قبحا وحسنا مدركين عقلا ، وحاولتم بعد اعتقاد ذلك ردّ الغائب إلى الشاهد ، فإذا كان هذا مذهبكم ، فينبغي أن توجبوا على الواحد منا أن يصلح غيره بأقصى الإمكان ، مصيرا إلى وجوب فعل الأصلح شاهدا وغائبا ؛ فإذا لم توجبوا فعل الأصلح شاهدا ، وهو الأصل المرجوع إليه فيما يناقش فيه غائبا ، فقد نقضتم دليلكم وحسمتم سبيلكم.
ونفرض ما ذكرناه في استصلاح العبد نفسه ، وقد وافقونا على أنه لا يجب على العبد أن يسعى في حق نفسه فيما هو الأصلح له في باب الدنيا ، مع أنه يتمكن من جلب منافع ولذات سوى ما هو ملتبس بها.
فإن قالوا : إنما لم يجب على العبد فعل الأصلح في حق نفسه وفي حق غيره ، لأنه يصير بتكليف ذلك مكدودا مجهودا ، فجاز أن لا يكلّف الأقصى والنهاية القصوى ؛ وليس كذلك حكم الباري تعالى فإنه مقتدر على نفع غيره وإصلاحه ، مع تعاليه عن تضرر فيما يفعل. وهذا الذي ذكروه لا محصول له ، فإن التعرض للنصب والتعب لو كان فاصلا بين الشاهد والغائب فيما ألزمناهم ، لوجب الفصل به فيما يجب على العباد اتفاقا ، حتى يقال : لا يجب على العبد شيء مما يكابده من المشاق.
فإن قالوا : ما يناله من ثواب الطاعات يربى على ما يناله من المشقات ؛ قيل لهم : فاسلكوا هذا المسلك في جلب الأصلح في موضع الإلزام ، ولا تسقطوا وجوب ما طولبتم به بالتعرض للمتاعب ، وهذا ما لا مخرج منه.
ثم نقول : العبد بالتزام الأصلح أحق على فاسد أصولكم ، وما ذكرتموه في روم الفصل يقضي