يتصور منه الأمر والنهي وقال عند اختتام هذا الفصل ولو لم يتفق في كتابنا إلا هذا لكان بالحري أن يغتبط به.
وقد أبنا ما فهمناه من كلام ذلك الحبر رضي الله عنه ، ولسنا نرى ذلك مقنعا في الحجاج ، ولا سبيل إلى حسم الطلبات عما ذكرناه ، ولا وجه لادعاء الضرورة. والذي عليه التعويل في غرض الفصل ، أنا نقول : قد أوضحنا الطرق الموصلة إلى كون الباري سبحانه عالما مريدا ، وقد قدمنا ما فيه مقنع في إثبات كلام النفس. والعالم بالشيء المريد له ، لا يمتنع أن يقوم به أخبار من المعلوم المراد ، على حسب تعلق العلم والإرادة به.
وكل معنى يقبله الموجود ، فإنه لا يعرى عنه أو عن ضده ، إن كان له ضد ، كما قرر في صدر الاعتقاد. فلو لم يتصف الباري تعالى بخبر صدق ، لوجب اتصافه بضده ؛ وإذا اتصف بضده استحال أن يقدر ذلك الصدق ذهولا وغفلة عما قدرناه مخبرا عنه. فإن الذهول كما يضاد الخبر عن الشيء ، فإنه يضاد أيضا العلم به وإرادته. وإن كان ضد الخبر الصدق ، خبرا هو خلف وكذب واقع على خلاف المخبر ، فيجب مع تقدير ذلك الوصف بقدمه والقضاء باستحالة عدمه ، لما قدمناه من إثبات قدم الكلام.
ثم يؤول منتهى ذلك إلى أنه يستحيل من الباري تعالى أن يخبر عما علمه ، على حسب تعلق العلم به. وذلك معلوم بطلانه ؛ فإنا نعلم قطعا أن العالم بالشيء يستحيل أن يتصف ، على علمه به بصفة يستحيل عليه معها كلام نفسه ، المتعلق بمعلومه على حسب تعلق العلم به ، حتى يقال مستحيل مع العلم به إخبار النفس عنه. فإذا امتنع ادعاء هذه الاستحالة شاهدا ، وانتسب جاحد ما قلناه إلى دفع البديهة ، فيلزم طرده شاهدا وغائبا.
فإن قيل : كيف ادعيتم البديهة في فرع أصله متنازع فيه ، فإن معظم المتكلمين صاروا إلى إنكار كلام النفس؟ قلنا : الذي يدعي أهل الحق أن كلام النفس لا ينكر ، وإنما التنازع في أن ما ادعيناه : هل هو كلام ، أو هو اعتقاد ، أو علم. فأما هواجس النفس وخواطرها ، فالاتصاف بها معلوم لا يجحد.
فإن قالوا : ليس يمتنع مع تقدير كلام النفس ، أن يعلم العالم كون زيد في الدار ، ويدير في خلد نفسه مع ذلك أنه ليس في الدار ، قلنا : هذا تخييل ووهم ، فإن ذلك الكلام الدائر أخبار ، وليس بخبر ناجز مثبت. والذي يحقق ذلك ، أن العالم بالشيء مع الإخبار عنه على حسب العلم به بتا قطعا ، يدير في نفسه ما صوره السائل. وحديث النفس على حكم الصدق مستدام ، كما كان قبل خطور هذا التقدير.
ولو كان ما ألزمه السائل ثابتا ، لاستحال اجتماعه مع نقيضه. وكل عالم بالشيء مخبر عنه على حقيقته ، يجد من نفسه على الضرورة الاتصاف بكونه مخبرا عنه ، مع تقديره مخبرا ، على حكم الخلف. وسبيل ذلك كسبيل العلم بالشيء على ما هو به ، مع تقدير اعتقاده فيه على خلاف ما هو به ، فلا يكون الاعتقاد المقدر مع العلم المتقرر اعتقادا محققا.