فصل
فإن قيل : إن سلم لكم ما ذكرتموه من نزول المعجزة منزلة التصديق بالقول ، فلا يتم غرضكم دون أن تثبتوا استحالة الخلف وامتناع الكذب في حكم الله سبحانه ، ولا سبيل إلى إثبات ذلك بالسمع ، فإن مرجع الأدلة السمعية إلى قول الله تعالى ؛ فما لم يثبت وجوب كونه حقا صدقا ، لا يستمر في السمع أصلا. ولا يمكن أن يحتج في ذلك بالإجماع ؛ فإن العقل لا يدل على تصحيح الإجماع ، وإنما يتلقى صحته من كتاب الله تعالى.
ولا يمكن التمسك في تنزيه الرب تعالى عن الكذب بكونه نقصا من وجهين : أحدهما أن الكذب عندكم تحكم لا يقبح لعينه ؛ والثاني أنه لو سلم أنه نقص ، فالمعتمد في نفي النقائص دلالة السمع. قلنا : أما الرسالة فإنها تثبت دون ذلك في الحال ، ولا يتعلق إثباتها بأخبار تتصدى لكونها صدقا أو كذبا. كأن المرسل قال : جعلته رسولا ، وأنشأت ذلك فيه آنفا ، ولم يقل ذلك مخبرا عما مضى.
وسبيل ذلك كسبيل قول القائل : وكلتك في أمري واستنبتك لشأني ، فهذا توكيل ناجز يستوي فيه الصادق والكاذب. ومحصول القول فيه أن صيغة التوكيل ، وإن كانت أخبارا ، فالغرض منها أمر بانتداب لشأن وانتصاب لشغل ، والأمر لا يدخله الصدق والكذب. وآية ذلك أن الملك وإن نقم عليه كذب وخلف ، فالفعل الذي فرضناه منه يصدق الرسول ويثبت الرسالة ، قطعا على الغيب من غير ريب. فهذا موقف لا يتوقف ثبوته على نفي الكذب عن الباري سبحانه وتعالى ، فاعلموه.
ولكن لا يثبت صدق النبي ، بعد ثبوت الرسالة ، فيما يؤديه وينهيه ، ويشرعه من الأحكام ويشرحه من الحلال والحرام ، إلا مع القطع بتقدس الباري تعالى عن الخلف والكذب. فإن النبي يعتضد فيما يدعيه من صدق نفسه في تبليغه ، بتصديق الله إياه. وما لم يثبت وجوب كون تصديقه تعالى حقا صدقا ، لا يثبت صدق النبي في أنبائه. وليس تصديقه فيما يبلغه تفصيلا ، بمثابة انتصابه رسولا ؛ فإن حقيقة نصبه يرجع إلى إثبات أمر ، والإخبار عن صدقه فيما يخبر به يتعرض لكونه صدقا أو كذبا.
وقد عول الأستاذ أبو إسحاق رضي الله عنه ، في كتابه المترجم بالجامع ، على فصل وحث على التمسك به ، فقال : الأحكام لا ترجع عندنا إلى صفات الأفعال ، وإنما ترجع إلى تعلق الكلام القديم بها. والشيء لا يجب لنفسه ، ولكن يقضي فيه بالوجوب ، للتوعد على تركه ووعد الثواب على فعله. والوعد والوعيد خبران ، فلو لم يثبتا على حكم الصدق ، لم يوثق بهما. وإذا كان كذلك ، لم يتقرر إيجاب وحظر ، وندب إلى الطاعة وتحذير من المخالفة. ويؤول قصارى ذلك إلى أن لا يتصور للباري تعالى أمر مطاع ، وقد دلت الأدلة على كونه إلها قادرا عالما ، ولا تعقل الإلهية ممن لا