بالله تعالى : ما ذكرناه شاهدا بمثابة التقريب ، وضرب الأمثلة للإيضاح ، ولم نذكره مستدلين به فإن سبيل ما ذكرناه من قبيل الضروريات ، ولا يستدل عليها ، ولكن قد تضرب فيها الأمثال.
وها نحن نوضح مثل ما ذكرناه شاهدا وغائبا ، فنقول : المعجزة إنما تدل في حق من يعتقد الرب قادرا يفعل ما يشاء ، فيقول النبي في مخاطبة من سبق اعتقاده للإلهية : قد علمتم أن ابتعاث النبي غير منكر عقلا ، وأنا رسول الله إليكم ، وآية صدقي أنكم تعلمون تفرد الرب تعالى بالقدرة على إحياء الموتى ، وتعلمون أن الله عالم بسرنا وعلانيتنا وما نخفيه من سرائرنا ونبديه من ظواهرنا ، وإنما أنا رسول الله إليكم ، فإن كنت صادقا ، فاقلب يا رب هذه الخشبة حية تسعى ؛ فإذا انقلبت كما قال ، وأهل الجمع عالمون بالله تعالى فحينئذ يعلمون على الضرورة أن الرب تعالى قصد بإبداع ما أبدع تصديقه ، كما ذكرناه شاهدا.
وما موّهوا به من قرائن الأحوال ، لا محصول له. فإن من كان غائبا عن المجلس الموصوف ، فبلغه ما جرى ، شارك الحاضرين في العلم بالرسالة وإن لم يحس حالا ، وكذلك لو كان الملك في بيت مستخل بنفسه ، ودونه السجف المسدولة ، فقال مدعي الرسالة : إن كنت رسولك فحرك الحجب ، وأشل السجوف ، ففعل ذلك كان تصديقا ، وإن لم ير الملك ، فلما جرى التصديق من وراء الحجاب ، انقطعت هذه الأسباب ، وانحسمت الأبواب ، ووضح الحق ، والله المشكور على كل حال.
ويعتضد ما ذكرناه ، بأن أهل المراء والشكوك تحزبوا في زمان الأنبياء ؛ فمنهم من أنكر الإلهية ، وخامرته الشكوك في النبوءات لذلك ؛ ومنهم من اعتقد كون النبي ساحرا ، وصار إلى أن الصادر منه تخييل ، وما اعتقد معتقد في دهر من الدهور كون المعجزة فعلا لله تعالى على الابتداء ، موافقا لدعوى النبي ، ثم استراب في النبوءات وذلك شاهد على أن ذلك موقع ضرورة ، لا مجال للشكوك فيه.
فهذا قولنا في دلالة المعجزة على صدق الرسول ، ولا يكاد يستتب ذلك للمعتزلة. فإن معنى ما ذكرناه على القصد إلى التصديق ، ويعسر على المعتزلة إثبات قصد الله تعالى ؛ فإنهم نفوا إرادة قديمة ومنعوا كونه مريدا لنفسه. ووضح بما قدمناه ، بطلان كونه مريدا بإرادة حادثة ، فلا يبقى لهم متعلق في إثبات قصد إلى تصديق.
فصل
فإن قيل : هل في المقدور نصب دليل على صدق النبي غير المعجزة؟ قلنا : ذلك غير ممكن ، فإن ما يقدر دليلا على الصدق لا يخلو : إما أن يكون معتادا ، وإما أن يكون خارقا للعادة. فإن كان معتادا ، يستوي فيه البر والفاجر ، فيستحيل كونه دليلا. وإن كان خارقا للعادة ، يستحيل كونه دليلا دون أن يتعلق به دعوى النبي ، إذ كل خارق للعادة يجوز تقدير وجوده ابتداء من فعل الله تعالى ؛ فإذا لم يكن بد من تعلقه بالدعوى ، فهو المعجزة بعينها.