فهذه العمدة في ضرب المثال ، وها نحن نبني عليه أسئلة ونتفصى منها ، ويندرج تحت ما نطرده أغراض يعظم خطرها.
فمن أهم الأسولة ما أدلى به المعتزلة ، حيث قالوا : إذا جوزتم أن يضل الرب عباده ، ويغويهم ويرديهم ، فما يؤمنكم من إظهار المعجزات على أيدي الكذابين لإضلال الخلائق؟ وقال : أصلنا في تنزيه الرب تعالى عن فعل الجور وإضلال العباد ، يؤمننا مما ألزمناكموه وتدل المعجزة على الصدق ، من حيث نعلم أن الرب تعالى يخصصها بالصادقين. ولا يثبتها للكاذب فيضل الخلق.
والجواب عن ذلك ، أن نقول : من شهد مجلس الملك في الصورة المفروضة ، علم على الضرورة تصديق الملك من يدعي الرسالة ، وإن لم يخطر لمعظم الحاضرين نظر وعبر وتفكر في أن الملك لا يغوي رعيته ، ولا يطغى حاشيته ، ولو كانت دلالة المعجزة على الصدق موقوفة على العلم بأن مظهر المعجزة لا يطغى ولا يضل ، لاختص بالعلم برسالة الملك من نظر هذا النظر ، واستدت منه العبر ، وليس الأمر كذلك على اضطرار ؛ والذي يكشف الحق في ذلك ، أن الملك لو كان ظالما غاشما لا تؤمن بوادره ، فالفعل المفروض ممن هذه صفته تصديق لمدعي الرسالة ، وجاحد ذلك منكر للبديهة.
ثم نقول للمعتزلة : ما وجه دلالة المعجزة عندكم؟ فإن قالوا : وجهها علمنا بأن الله تعالى لا يضل خلقه ، قلنا : فعلمكم على زعمكم يقارن المعتاد من الأفعال ، حسب مقارنته للخارق منها للعادة ، فجوزوا أن يقع فعل معتاد مع اعتقادكم علما للنبي ، فإن قالوا : لا بد من اختصاص المعجزة بوجه لأجله تدل ، قلنا : فبينوه نتكلم عليه ، فلا يزالون في عمه وحيرة ، أو يرجعوا إلى الحق. فإذا أوضحوا وجها ، سوى ما انتحلوه من فاسد معتقدهم ، فنقول : لا تظهر المعجزة على يدي الكاذب ، لأنها لو ظهرت لدلت على صدقه ، وتصديق الكاذب مستحيل في قضيات العقول.
فإن قيل : هل تجوزون في المقدور وقوع المعجزة على حسب دعوى الكاذب ، أم تقولون ليس ذلك من المقدور؟ قلنا : ما نرتضيه في ذلك أن المعجزة يستحيل وقوعها على حسب دعوى الكاذب ، لأنها تتضمن تصديقا والمستحيل خارج عن قبيل المقدورات ، ووجوب اختصاص المعجزة بدعوى الصادق ، كوجوب اقتران الألم بالعلم به في بعض الأحوال ، وجنس المعجزة يقع من غير دعوى ، وإنما الممتنع وقوعه على حسب دعوى الكاذب ، فاعلموا ذلك.
فإن قيل : إن ثبت لكم ما ادعيتموه في المثال الذي فرضتموه ، فبم تردون الغائب إلى الشاهد ، مع علمكم بأنه لا بد من جامع بينهما ، فإن روم الجمع من غير جامع يجر إلى الدهر والإلحاد؟
وربما عضدوا هذا السؤال بآخر ، فقالوا : إنما علمنا رسالة مدعيها بقرائن الأحوال ، وما أحسسنا منها ، وذلك مفقود غير موجود في حكم الإله.
وهذا آخر عقدة في النبوءات ، فإذا انحلت لم يبق بعدها للطاعنين مضطرب ؛ فنقول مستعينين