منزلة تخصيص صيغة عامة ، والمخصص من الصيغة العامة غير مراد بها ، ونحن نلزم المعتزلة ومن انتمى إلينا فصلين على موجب أصلين.
فنقول للمعتزلة : من أصلكم أن تأخير البيان عن مورد الخطاب إلى وقت الحاجة غير سائغ ، فلو كان النسخ تبيينا له ، لما استأخر عن اللفظ الوارد أولا ، كما لا يستأخر التخصيص عندهم عن اللفظة العامة لو جردت عن مخصصها ، ولا محيص لهم عن ذلك.
ونقول للمنتمين إلينا : قد علمتم مصيرنا إلى جواز نسخ العبادة المفروضة قبل مضي وقت يسعها ، ويستحيل مع المصير إلى ذلك القول بأن النسخ تبيين لانقطاع وقت العبادة ، إذ يستحيل أن يقدر للعبادة وقت لا يسعها. ثم إبراهيم صلىاللهعليهوسلم ، مأمور عندنا وعند أصحابنا بالذبح أولا ، ونسخ ذلك عنه آخرا ، وعين المأمور به هو الذبح ، ولم يكن أفعالا تمتد وتتعدد ، حتى يصرف الأمر إلى الشيء ، والنسخ إلى غيره.
وإذا صرف النسخ إلى عين المأمور به ، كان رفعا للحكم على التحقيق ؛ فإذا استبان ذلك رددنا على اليهود المنكرين للنسخ ، وقلنا : ليس بين الجواز والاستحالة رتبة معقولة ، ووجوه الاستحالة مضبوطة فرب شيء يستحيل لنفسه ، كانقلاب الأجناس ، واجتماع الضدين ، والأمر بما نهى عنه ليس مما يستحيل لنفسه ، فإن تصويره ممكن ، لا استحالة فيه ؛ فإذا لم يستحل لنفسه ، امتنع صرف استحالته إلى غيره ، إذ ليس في تجويزه خروج صفة من صفات الإلهية عن حقيقتها ؛ فإن الحكم ليس بصفة للفعل نفسية كما قدرناه ، وليس في تقدير النسخ ما يفضي إلى تغير العلم والإرادة ، ولا يزال السبر يطرد حتى يستبين أن النسخ لا يستحيل لنفسه ، ولا يفضي إلى استحالة في غيره.
فإن قالوا : بم تنكرون على من يزعم أنه يستحيل لإفضائه إلى اتصاف الباري تعالى بالبداء ، وهو متقدس عنه؟ قلنا : البداء يعبر عن استفادة علم ما لم يكن ، ومن أحاط بما لم يكن محيطا به ، يقال بدا له ، وقد يعبر به عن من يهم بأمر ثم يندم على ما هم ، ولا يتقرر شيء من ذلك في النسخ ؛ فإن علم الباري سبحانه متعلق بالمعلومات على ما هي عليه ، ولا يتجدد له علم لم يكن ، والإرادة على أصولنا لا يعتبر بها الأمر ؛ فإن الرب سبحانه وتعالى يأمر بما لا يريده ، ويريد ما لا يأمر به ، فلم يبق لادعاء البداء وجه.
وقد تمسك نفاة النسخ بتخيل لا يقوم بالانفصال عنه إلا متبحر في هذا الشأن ، وذلك أنهم قالوا : ما أوجبه الله تعالى فقد أخبر عن كونه واجبا ؛ فلو حظره وأخبر عن كونه محظورا ، لانقلب الخبر الأول خلقا واقعا على خلاف مخبره ، وذلك مستحيل.
والذي ذكروه تخييل ليس له تحصيل وذلك أن الوجوب ليس بصفة للواجب على أصلنا ؛ والمعنى بكون الشيء واجبا أنه الذي قيل فيه «افعل» : فإذا أخبر الرب تعالى عن وجوب الشيء فمعناه أنه أخبر عن الأمر به ؛ فإذا نهى عنه أخبر عن النهي عنه ؛ فليس بين الإخبار عن الأمر به تحقيقا وبين