فأما جواز الإعادة فالعقل يدل عليه ، ويدل عليه السمع أيضا ، كما ذكرنا في صدر السمعيات. وكل حادث عدم فإعادته جائزة ، ولا فصل بين أن يكون جوهرا أو عرضا.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الأعراض لا تعاد ، بناء على أن المعاد معاد لمعنى ، فلو أعيد العرض لقام به معنى. وهذا لا أصل له عند المحققين ؛ فإن الإعادة بمثابة النشأة الأولى ، وليس المعاد معادا لمعنى.
وجوزت المعتزلة إعادة الجواهر إذا عدمت ، وقسموا الأعراض إلى ما يبقى وإلى ما لا يبقى ، وقالوا : ما لا يبقى منها كالأصوات والإرادات فلا يجوز إعادتها ، وكل عرض يستحيل بقاؤه يختص عندهم بوقت لا يجوز تقدير تقدمه عليه ، ولا تقدير استيخاره عنه. وأما الباقي من الأعراض ، فمنقسم إلى ما كان مقدورا للعبد ، وإلى ما لم يكن مقدورا له ؛ فأما ما كان مقدورا للعبد ، فلا يجوز من العبد إعادته ، ولا يصح من القديم أيضا إعادته عندهم. وأما ما لم تتعلق به قدرة العبد ، وهو باق من الأعراض ، فتجوز إعادته.
فإن سئلنا الدليل على جواز الإعادة استثرناه من نص الكتاب ، وفحوى الخطاب ، وشبهنا الإعادة بالنشأة الأولى ، كما قال تعالى ردا على منكري البعث : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).
ووجه تحرير الدليل أنا لا نقدر الإعادة مخالفة للنشأة الأولى على الضرورة ، ولو قدرناها مثلا لها لقضى العقل بتجويزها ، فإن ما جاز وجوده جاز مثله ، إذ من حكم المثلين أن يتساويا في الواجب والجائز.
وهذا توسع في الكلام ، فإن الإعادة هي المعاد ، والمعاد هو بعينه المخلوق أولا ، فكيف يقدر الشيء خلافا لنفسه! والدلالة تعتضد بأن الأوقات التي هي مقارنة موجودات لموجودات لا أثر لها. فما فرض وجوده في وقت لم يمتنع تقديره في غيره.
وهذا لا يستقيم للمعتزلة مع خرمهم أصل الإعادة بمنعها فيما لا يبقى من الأعراض ، بأن قالوا : إنما منعنا إعادة ما لا يبقى من الأعراض ؛ لأنه لو عاد ، وقد سبق له الوجود ، لكان موجودا في وقتين ؛ ولو جاز وجوده ، في وقتين يتخللهما عدم ، لجاز وجوده في وقتين متواليين. وهذا الذي ذكروه اقتصار على الدعوى المحضة ، وهم بالجمع بينهما مطالبون.
ثم لو استمر الوجود في وقتين ، لا تصف العرض بكونه باقيا ، ولو بقي العرض كذلك لاستحال عدمه ، وليس كذلك إذا وجد العرض في وقتين بينهما عدم. فإن في كل وقت حادث غير مستمر ، وهو مقدور عندنا في حالتي الخلق والإعادة ، وإن كان يمتنع كون الباري مقدورا. ثم يلزمهم إعادة مقدور العبد ، فلا يجدون في الانفصال وجها مغنيا ، كما ذكرناه في خلق الأعمال ، فهذا كلام في جواز الإعادة.