تحط العدالة ، وكل جريرة لا تؤذن بذلك بل تبقي حسن الظن ظاهرا لصاحبه ، فهي التي لا تحط العدالة ؛ وهذا أحسن ما يتميز به أحد الضربين عن الآخر.
فصل
من مات من المؤمنين على إصراره على المعاصي ، فلا يقطع عليه بعقاب ، بل أمره مفوض إلى ربه تعالى ، فإن عاقبه فذلك بعدله ، وإن تجاوز عنه ، فذلك بفضله ورحمته ، فلا يستنكر ذلك عقلا وشرعا ، وهذا مذهب البصريين وبعض البغداديين. وذهب كثير من معتزلة بغداد ، إلى أن العفو غير جائز ، وحتم على الله أن يعاقب كل مصرّ على الأبد ، وهذا الذي قالوه مراغمة للعقل ، فلا يخفى حسن الغفران ، والتجاوز عن المسيء ، وقد نطق الشرع بذلك وحثّ عليه. فإذا حسن من الواحد منا الصفح ، مع تلذذه بالانتقام ، والتشفي ، وتعرضه للمضار لو كظم غيظه ، فلأن يحسن العفو من الرب تعالى ، المتنزه عن الحاجة المنعوت بالغنى حقا ، أولى وأحرى ، وما ذكروه إبطال لفضل الله ورحمته ؛ فإنهم أوجبوا عليه ما فعله في الدنيا ، وحتموا ما يجري من أحكام العقبى ، ولا تبقى مسكة من الدين مع من ينتحل هذا المذهب.
فصل
إذا ثبت جواز الغفران ، وقد شهدت له شواهد من الكتاب والسنة ؛ لم نذكرها لشهرتها ، فيترتب على ذلك تشفيع الشفعاء وحط أوزار المجرمين بشفاعتهم.
فمذهب أهل الحق أن الشفاعة حق ، وقد أنكرها منكرو الغفران. ومن جوز الصفح والعفو بدءا من الله تعالى ، فلا يمنع الشفاعة ، ومنهم من يمنعها على مصيره إلى تجويز الغفران ؛ وذلك نهاية في الجهل ، لا يلتزمها ذو تحصيل.
وسبيلنا أن نبين أن تشفيع الشفعاء من مجوزات العقول بالطرق التي قدمناها. فإن رددنا الأمر إلى محض الحق ، ولم نقل بالتحسين والتقبيح ، فالرب تعالى يفعل ما يشاء ؛ وإن جاريناهم ، وقفونا فاسد معتقدهم ، فمرجعهم إلى شواهد الشاهد ؛ ولا يقبح عند العقلاء أن يشفّع الملك بعض المخلصين المصطفين لديه في مذنب استحق عقابا ، ولا ينكر ذلك إلا متعنت.
فإذا ثبت جواز التشفيع عقلا ، فقد شهدت له سنن بلغت الاستفاضة ، فمن رامها ألفاها منقولة ، ثم هي مصرحة بالتشفيع في أهل الكبائر ، إذ قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (١) ؛ وقال في الشفاعة : «لا تحسبوها للمتقين ، وإنما هي للخاطئين المتلوّثين» ؛ وقال : «خيرت
__________________
(١) رواه أبو داود في كتاب السنة باب ٢١. الترمذي في كتاب القيامة باب ١١. ابن ماجه في كتاب الزهد ـ