ولا ينبغي أن يكيع ذو التحصيل من تهويل نفاة الأحوال ، بأن الحال لا يتصف بالوجود ولا بالعدم ، فإن قصارى ما يذكرونه استبعاد وادّعاء لا يمكن استناده إلى دعوى ضرورة وتمسك بدليل.
ومذهبنا أن المعلومات تنقسم إلى وجود ، وعدم ، وصفة وجود لا تتصف بالوجود والعدم.
فإذا وضح ما قلنا ، فاعلم أن إثبات العلم بالصفة الأزلية لا يتلقى إلا من اعتبار الغائب بالشاهد ، والتحكم بذلك من غير جمع يجر إلى الدهر والكفر ، وكل جهالة تأباها العقول ؛ فإن من قال يقضى على الغائب بحكم الشاهد من غير جمع ، لزمه أن يحكم بكون الباري تعالى جسما محدودا من حيث لم يشاهد فاعلا إلا كذلك ، ويلزم منه القضاء بتعاقب الحوادث إلى غير أول من حيث لم يشاهدها إلا متعاقبة ، إلى غير ذلك من الجهالات.
فإذا لم يكن من جامع بدّ ، فالجامع بين الشاهد والغائب أربعة :
أحدها العلة ؛ فإذا ثبت كون حكم معلولا بعلة شاهدا وقامت الدلالة عليه ، لزم القضاء بارتباط العلة بالمعلول شاهدا وغائبا ، حتى يتلازما وينتفي كل واحد منهما عند انتفاء الثاني ، وهذا نحو ما حكمنا بأن كون العالم عالما شاهدا ، معلل بالعلم. وسنوضح ذلك على قدر الكتاب ، إذا خضنا في الحجاج.
الطريقة الثانية في الجمع الشرط ؛ فإذا تبين كون الحكم مشروطا بشرط شاهدا ، ثم يثبت مثل ذلك الحكم غائبا ، فيجب القضاء بكونه مشروطا بذلك الشرط اعتبارا بالشاهد ؛ وهذا نحو حكمنا بأن كون العالم عالما مشروط بكونه حيّا ، فلما تقرر ذلك شاهدا اطرد غائبا.
والطريقة الثالثة الحقيقة ؛ فمهما تقررت حقيقة شاهدا في محقق اطردت في مثله غائبا ، وذلك نحو حكمنا بأن حقيقة العالم ، من قام به العلم.
والطريقة الرابعة في الجمع الدليل ؛ فإذا دلّ على مدلول عقلا لم يوجد الدليل غير دال شاهدا وغائبا ، وهذا كدلالة الأحداث على المحدث. فهذا أحد الفصلين الموعودين.
فصل
فأما الفصل الثاني ، فهو يشتمل على تعليل الواجب والرّد على منكريه. والذي تبني المعتزلة فاسد معتقدهم في نفي الصفات عليه ، مصيرهم إلى أن كون الباري تعالى عالما واجب ، والواجب يستقل بوجوبه عن مقتض يقتضيه ؛ وليس كذلك كون العالم عالما شاهدا ، فإنه جائز ممكن ، فإذا ثبت افتقر إلى مخصص أو مقتض.
وشبهوا الحكم الواجب والجائز ، بالوجود الواجب والجائز. والقديم سبحانه وتعالى لما كان واجب الوجود ، لم يتعلق وجوده بمقتض ؛ والحادث لما كان جائز الوجود ، افتقر وقوعه إلى مقتض.