القضية العقلية تدل على إثبات الصفة على الجملة ، فأما كون العلم زائدا على القدرة فمما لا يتوصل القطع إليه عقلا. والسبيل فيه التمسك بأدلة السمع ، فإن المتكلمين في الصفات بالنفي والإثبات مجمعون على نفي صفة في حكم العلم والقدرة ، فمن رام إثبات صفة في حكمها كان خارقا للإجماع.
فإن قيل : إذا لم يبعد ثبوت علم في حكم علوم ، فما المانع من مصيرنا إلى أن الباري تعالى عالم بالمعلومات لنفسه ، قادر عليها لنفسه ، وتكون نفسه في حكم العلم والقدرة ، وذلك يفضي إلى الاستغناء بالذات عن الصفات؟ قلنا : هذا ليس بالاستدلال ، فإنكم بنيتم قولكم هذا على أصل تعتقدون فساده ؛ إذ العلم الذي اعتقدناه غير ثابت عندكم ، فكيف تبنون مذهبكم على ما تعتقدون بطلانه؟
ثم مضمون ما عولتم عليه يقضي بما توافقوننا على بطلانه ؛ وذلك أن ذات الباري تعالى لو كان في حكم العلوم لكانت علما ، وهذا ما لا ينتحله أحد من أهل الملة. وقد قال أبو الهذيل (١) : الباري تعالى عالم بعلم ، وعلمه نفسه ، ونفسه ليست بعلم ، وعدّ هذا من فضائحه ومناقضاته. وهو مع مفارقة ما أنكره سائر المعتزلة ، ينكر كون ذات الباري تعالى علما وقدرة. وأحق الناس بالتزام ذلك المعتزلة ؛ فإنهم قالوا : لو ثبت للباري تعالى علم متعلق بمعلوم علمنا ، لكن مثلا لعلمنا ؛ فلو قضوا بكون ذاته في حكم العلوم ، لألزموا كون ذاته علما ، وهو مما يأبونه أصلا.
فإن قيل : إن كان ما ذكرتموه دفعا لكلام الخصم ، فبم تدفعون ذلك عن أنفسكم ، وقد زعمتم أن العقل يقضي بإثبات الصفة على الجملة ، والكلام في التفاصيل موقوف على الأدلة السمعية؟ قلنا : هذا مما لا يحتمل هذا المعتقد بسطه ، ولكن القدر اللائق به أن العقل يدل على إثبات العلم ، ثم المصير إلى أن العلم زائد على النفس مدركه السمع ، فإذا دل العقل على إثبات العلم ، وانعقد الإجماع على أن وجود الباري تعالى ليس بعلم ، فيحصل من مدلول السمع والعقل إثبات علم زائد على الوجود ، وبالله التوفيق.
فصل
قد ذكرنا الدليل على إثبات كون الباري تعالى مريدا عند تعرضنا لإثبات العلم بأحكام الصفات. ثم مذهب أهل الحق أن الباري تعالى مريد بإرادة قديمة. وقد زعمت المعتزلة البصريون أنه مريد بإرادة حادثة لا في محل ، وذلك باطل من أوجه :
منها ، إن إرادته لو كانت حادثة لا فتقرت إلى تعلق إرادة بها ؛ فإن كل فعل ينشئه الفاعل ، وهو عالم به وبإيقاعه على صفة مخصوصة في وقت مخصوص ، فلا بد أن يكون قاصدا إلى إيقاعه ؛ ونفي
__________________
(١) هو محمد بن الهذيل المعروف بالعلاف ، شيخ المعتزلة والذاب عنهم ، أخذ الاعتزال عن واصل بن عطاء وعثمان بن خالد الطويل ، كان يقول بفناء مقدورات الله عزوجل. مات عام ٢٢٦ وقيل ٢٣٥. انظر شذرات الذهب ٢ / ٨٥. والفرق بين الفرق.