القصد إلى إيقاع فعل ، مع العلم به ، يلزم صاحبه نفي المقصود إلى إيقاع جميع الأفعال.
فإذا قالوا : الإرادة يراد بها وهي لا تراد في نفسها ، لم يكترث بقولهم ، وألزموا ما ذكرناه من استحالة إنشاء فعل مع العلم به من غير قصد إليه.
وقد ادعى بعض المحققين في ذلك الضرورة ، وهو غير مبعد في دعواه.
ولو ساغ للبصريين ما قالوه ، لساغ لجهم أن يقول : الباري تعالى يخلق لنفسه علوما حادثة بالحوادث يجب أن يعلم الحوادث بها ، ولا يجب أن يعلم العلوم بأنفسها بعلوم أخرى ، وهذا مما لا فصل فيه.
ثم نقول : قد وافقتمونا على أن المتماثلين يجب اشتراكها في الواجبات والجائزات وما يستحيل ، ثم أوجبتم لإرادتنا القيام بالمحال ؛ فالتزموا ذلك في إرادة الباري تعالى.
ثم يلزمهم قيام إرادة الباري تعالى عن زعمهم ، بالجماد. فإن حاولوا دفع ذلك ، وقالوا الإرادة تستدعي محلا مخصوصا وبنية مخصوصة وحياة ، قيل لهم : إثباتكم إرادة لا في محل ، نفي للمحل والبنية والصفة التي أشرتم إليها ؛ فإذا ساغ نفي أصل المحل ، لم يبعد نفي شرط المحل.
فصل
ذهب جهم (١) إلى إثبات علوم حادثة للرب ، تعالى عن قول المبطلين. وزعم أن المعلومات إذا تجددت أحدث الباري سبحانه وتعالى علوما متجددة ، بها يعلم المعلومات الحادثة ، ثم العلوم تتعاقب حسب تعاقب المعلومات في وقوعها متقدمة عليها.
والذي ذكره خروج عن الدين ومخالفة لإجماع المسلمين ، وإضراب عن قضية العقول. وسبيل الرد عليه في مدارك العقل يداني سبيل الرد على البصريين ، في اعتقادهم الإرادات الحادثة الثابتة على زعمهم لله تعالى في غير محالّ.
فنقول لجهم : إن افتقرت الإرادات إلى علوم متعلقة بها ، فلتفتقر العلوم الحادثة إلى علوم أخر متعلقة بها ، بأنها مشاكة للمعلومات في كونها أفعالا حوادث ؛ وذلك إن التزمه تجر إلى إثبات علوم لا نهاية لها ، وهي متعاقبة حادثة ، ومفاده تسويغ حوادث لا أول لها. وإن لم يلتزم ذلك ، لزمه من استغناء العلوم عن علوم حدوثها ، استغناء جملة الحوادث عن تعلق العلوم بها.
ثم العلوم الحادثة عند جهم لا تخلو : إما أن تكون ثابتة في غير محل ، أو قائمة بأجسام ، أو
__________________
(١) هو أبو محرز جهم بن صفوان الراسبي قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ رقم (١٥٨٤) : «الضال المبتدع ، رأس الجهمية». زعم أن الجنة والنار تبيدان وزعم أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط ، وأن الكفر هو الجهل به فقط انظر الفرق بين الفرق.