وذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس ، وهو الفكر الذي يدور في الخلد ، وتدل عليه العبارات تارة وما يصطلح عليه من الإشارات ونحوها أخرى.
والدليل على إثبات الكلام القائم بالنفس : أن العاقل إذا أمر عبده بأمر ، وجد في نفسه اقتضاء الطاعة منه وجدانا ضروريا.
ثم إنه يدل على ما يجده ببعض اللغات وبضروب من الإشارات أو برقوم تسمى الكتبة.
فإن زعموا أن ما ذكرنا من الأمر إنما هو إرادة الآمر امتثال المأمور لأمره ، فذلك باطل ، فإن الآمر قد يأمر بما لا يريد أن يمتثل المخاطب فيه أمره ، وإن كان يجد في هواجس النفس الاقتضاء منه الذي هو مدلول العبارة. وسندل من بعد على أن الآمر الموجب لا يجب كونه مريدا للفعل المأمور به.
فإن قالوا : الذي يجده في نفسه إرادة تجعل اللفظ الصادر منه أمر على جهة ندب أو إيجاب ، وهذا باطل من أوجه ؛ أحدها أن اللفظة تتصرم مع استمرار وجدان الاقتضاء في النفس ، والماضي لا يراد بل يتلهف عليه ، وعلى اضطرار نعلم أن ما نجده بعد انقضاء اللفظ ليس تلهفا على منقض. ومما يوضح ذلك أن اللفظة ترجمة عما في الضمير وهذا مما تقضي به العقول ، وليست اللفظة ترجمة عن إرادة جعلها على صفة ، بل هي ترجمة اقتضاء وإيجاب ، ولا يجحد ذلك محصل.
فإن قيل : الاقتضاء ضرب من الاعتقاد ، كان محالا ؛ فإن الاعتقاد إما أن يكون ظنا أو علما أو جهلا ، إلى غير ذلك من صنوف الاعتقادات ، والذي يجد من نفسه الاقتضاء يقطع بأنه ليس بعلم ولا ظن ولا جهل ولا حدس ولا تخمين. والذي يحقق ذلك أن ما ألزمونا من جعل الاقتضاء إرادة واعتقادا ، يلزمهم القول به في النظر ، فلو قال قائل : النظر إرادة علم بالمنظور فيه أو هو من ضروب الاعتقادات ، فلا ينفصلون عن ذلك بما يوضح كون النظر زائدا على الإرادات والاعتقادات إلا وسبيلهم يطرد لنا في إثبات غرضنا.
ومن الدليل على إثبات كلام النفس أن قول القائل : «افعل» قد يتضمن استحبابا وقد يتضمن إيجابا ، وقد يقتضي إباحة ، وقد يرد مورد النهي. فإذا دل على إيجاب يستحيل أن يكون هو الإيجاب بنفسه ، فإن صورة اللفظ في إرادة الإيجاب كصورة اللفظ في إرادة الاستحباب ، إذ هو أصوات متقطعة ضربا من التقطع ، والأصوات لا تختلف في انقسام جهات الاحتمالات على قطع. فيلزم المصير إلى أن الإيجاب معنى في النفس ، ثم تعتور عليه الدلالات بالعبارات وغيرها من الأمارات.
فإن قيل : ما ألزمتمونا في مرامكم ينعكس عليكم في كون اللفظ دليلا على ما في النفس ، فإن الدليل على الإيجاب يجب أن يتميز عن الدليل على الاستحباب ، قلنا : ليس يرجع تمييز الدليلين إلى أنفس الأصوات ، ولكن إذا اقترنت القرائن بالألفاظ وشهدت الأحوال ، اضطر المخاطب إلى درك مقصوط اللافظ. وما ذكرناه من قرائن الأحوال ليست من الكلام عند المخالفين ، فهذا القدر مغن في مدارك العقل.