فإن قال القائل : لئن استمر لكم ما ذكرتموه في العلم والقدرة ، فما وجه تقريره في الإرادة والكلام؟ قلنا : الغرض أن نوضح انعقاد الإجماع الواجب الاتباع على نفي كلام ثان قديم ، وذلك مقرر على ما ذكرناه لا خفاء به.
فإن قيل : ما الذي صرفكم عن مدارك العقول في هذه الفصول؟ قلنا : قد ألفينا العلم القديم متعلقا بالمعلومات ، قائما مقام علوم مختلفة شاهدا ، وليس في العقل ما يفضي إلى القطع باستحالة قيام العلم القديم مقام القدرة ، وليس فيه أيضا ما يؤدي إلى وجوب تعلق العلم الواحد بجميع المعلومات ، وكل ما يحاول به إثبات ذلك من قضيات العقول باطل. وهذا المعتقد لا يحتمل استقصاء ما قيل فيه والرد عليه.
فصل
قد امتنع مثبتو الصفات من تسميتها مغايرة للذات ، وغرضنا من هذا الفصل يستدعي تقديم حقيقة الغيرين.
والذي ارتضاه المتأخرون من أئمتنا في حقيقة الغيرين ، أنهما الموجودان اللذان يجوز مفارقة أحدهما الثاني بزمان ، أو مكان ، أو وجود ، أو عدم. وهذا أمثل من قول من قال : الغيران كل شيئين يجوز وجود أحدهما مع عدم الثاني ؛ فإن معتقد قدم الجواهر واستحالة عدمها ، يقطع بتغاير جسمين مع ذهوله عن تجويز عدم أحدهما ، ولا يتحقق العلم بالمحقق دون درك الحقيقة.
والقول في إيضاح معنى الغيرين ، ليس من القواطع عندي ؛ إذ لا تدل عليه قضية عقلية ، ولا دلالة قاطعة سمعية ، ولسنا نقطع بإبطال قول من قال من المعتزلة : كل شيئين غيران. والأمر يؤول إلى إطلاق ترجيح وتلويح متلقّى من ألفاظ محتملة.
فإن قيل : إذا لم تقطعوا بما ذكره أئمتكم في حقيقة الغيرين ، فهل تقطعون بالمنع من إطلاق الغيرية في صفات الباري تعالى وذاته؟ قلنا : هذا مما نمنع منه قطعا ، لاتفاق الأمة على منع إطلاقه. وكما لا توصف الصفات بأنها أغيار للذات ، فلا يقال إنها هي. ولا نتحاشى من إطلاق القول بأن الصفات موجودات ، والعلم مع الذات موجودان ، وكذلك القول في جميع الصفات. وامتنع الأئمة من تسمية الصفات مختلفة ، وأطلق الإمام القاضي أبو بكر رضي الله عنه (١) القول بأنها مختلفة.
فصل
ذهب العلماء من أئمتنا إلى أن البقاء صفة الباقي زائدة على وجوده بمثابة العلم في حق العالم.
__________________
(١) الإمام الأشعري القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ، توفي عام ٤٠٣ ه. راجع المقدمة.