لكفر وطغى ، فمن هذه حاله ، فصلاحه على الضرورة في أن يخترم. ومن أبدى في ذلك مراء سقطت مكالمته ودحضت حجته. وكل كلام في اقتضاء تكليف فهو مقيد بقصد الإصلاح.
ولا مزيد في التناقض على أن يقول القائل : آمرك وقصدي بأمرك إصلاحك ، مع علمي بأنك لا تصلح ، ولو لم آمرك لنجوت من موبقات العواقب ومرديات العواطب. فهذا ، وقيتم البدع ، غاية في التناقض لا يخفى مدركها على عاقل.
ومما يعارضون به ، أن أوامر الشرع وزواجره قد تتعلق بالأحوال المعللة بعللها ، وذلك مثل تقدير الشرع بأمر مكلف بكونه قائما عالما ، ولا سبيل إلى جحد ذلك من موارد الشرع وموجبات السمع. ثم كون العالم عالما ، وإن حسن تقدير الطلب فيه ، فليس هو واقعا بالمطالب به على أصول المخالفين ، فإنه لا يقع بالقدرة إلا حدوث ذات. والأحوال توجبها العلل ، وتثبت واجبة تابعة للحدوث ؛ فإذا لم يبعد تقدير الطلب بما لا يقع بالمطالب ، لم يبعد ما ألزمونا.
ثم نقول : ما أسندتم إليه تخييلكم محض تهويل. فإنا نقول قد سبقت معرفتكم بأن خصومكم لا يعتقدون كون العبد المأمور والمنهي موقعا لفعله ، ثم علمتم اتفاق أهل الملل على توجه الأوامر على المكلفين ، ثم ادعيتم بعد هذين الأصلين استحالة الطلب فيما لا يوقعه المطالب.
وسبيل إيجاز الكلام أن نقول : ما ادعيتم استحالته ، لا تخلون فيه من أمرين : إما أن تسندوا دعواكم إلى الضرورة ، وإما أن تسندوها إلى دليل على زعمكم. وإن ادعيتم العلم الضروري ، كنتم مباهتين في ادعاء الضرورة بإزاء مخالفة أكثر الأمة ، ثم لا تسلمون من معارضة دعواكم بمثلها. وإن أسندتم تصحيح دعواكم إلى نظر ، فأبدوه نتكلم عليه ، ولا تقتصروا على الدعوى العرية.
وقد سلك بعض أئمتنا طريقا في الكسب تدرأ هذه الشبهة ، على ما سنعقد في حقيقة الكسب فصلا ، وذلك أنه قال : القدرة الحادثة تتضمن إثبات حال للمقدور بها ، وتلك الحال متعلق الطلب. والخلق على أصول المعتزلة لا يتضمن إثبات ذات ، إذ الذوات عندهم ثابتة عدما ووجودا على صفات أنفسها. وإنما يتضمن الاختراع وجود الذات ، وهو حال عند محققيهم.
شبهة أخرى لهم ، وهي أنهم قالوا : إذا حكمتم بأن القدرة الحادثة لا تؤثر في متعلقها ، فسبيلها سبيل العلم المتعلق بالمعلوم ، ويلزم على مقتضى ذلك تجويز تعلق القدرة الحادثة بالألوان والأجسام والقديم وجميع الحوادث قياسا لها على المعلوم. وهذا الذي موهوا به دعوى ، وهم بإثباتها مطالبون ، وكل مشبه شيئا بشيء مطالب بالدليل على إثبات تشابههما في الوجه الذي يبغيه المشبه.
فإن قالوا : الجامع بين القدر والعلوم استواؤهما في انتقاء تأثيرهما في متعلقاتهما ، قلنا : لم قلتم إن العلوم عم تعلقها لأنه لا أثر لها؟ ولا يتخلصون من المطالبة أو يوردوا دليلا ، ولا يكادون يهتدون إليه سبيلا. ثم الرؤية لا تؤثر في المرئي ، ولا تتعلق بجميع الموجودات على مذهب الخصم. والعلم بسواد معين لا يتعلق بغيره ، وإن لم يكن له أثر في المعلوم به ، فبطل ما عولوا عليه.