نقضي ، والحال هذه ، بكون الأكوان الضرورية الواقعة على حسب الدواعي أفعالا لذي الدواعي ، فبطل ما عولوا عليه من كل وجه.
وما ذكروه من إدراك التفرقة بين المقدور وغيره صحيح ، ولكن التفرقة آيلة إلى إدراك تعلق القدرة بأحدهما دون الثاني ، وهو كالفرق بين المعلوم والمظنون ، مع العلم بأن العلم والظن لا يؤثران في متعلقهما.
فصل
ومما تمسكوا به ، وهو من أعظم تخيلاتهم ، أن قالوا : العبد مطالب من ربه تعالى بالطاعة ، ويستحيل في العقول أن يطالب العبد بما لا يقع منه. قالوا : المقدور عندكم بمثابة القدرة في أن كل واحد منهما واقع بقدرة الله تعالى ، وليس للعبد من إيقاع المقدور شيء ، فما المطلوب؟ وما معنى الطلب؟ وما الفرق بين مطالبة العبد بألوانه وأجسامه ، وبين مطالبته بأفعاله؟
وربما قرروا هذه الشبهة ، وقالوا : لسنا نلزمكم الآن أمرا يتعلق بتقبيح العمل وتحسينه ، ولكن أهل الملل متفقون على أن ما يؤدي إلى حمل كلام الرب تعالى على التناقض والخروج عن الإفادة فهو باطل. ومن لغو الكلام أن يقول القائل لمن يخاطبه : افعل ما أنا فاعله ، وابدع ما أنا مبدعه.
وسبيلنا أن نفاتح المعتزلة بعكس هذه الشبهة عليهم من أوجه ، منها أن نقول : من أصلكم أن المعدوم شيء وذات على خصائص الصفات ، فما معنى المطالبة بإثبات ما هو ثابت؟ إذ لا معنى لكون المعلوم موجودا ، إلا أنه ثابت ذات لها خصائص صفات. وهذا الذي ألزمناهم يبطل عليهم معنى الخلق في حكم الله سبحانه وتعالى.
فأما من أنكر الأحوال من المعتزلة ، فلا مطمع له في الانفصال عما ذكرناه. ومن قال بالأحوال من المنتمين إلى الاعتزال ، فربما يقولون : المطلوب هو الوجود ، وهو حال متجددة للذات ، وذلك محال. فإن الحال لو كانت تنفرد بالإثبات عن الانتفاء ، لكانت ذاتا ؛ إذ كل ما يتخيل منتفيا ، ثم يعتقد تجدده على ذات واقعا بالقدرة على حياله وانفراده فهو ذات. ولو ساغ صرف أثر القدرة إلى الحال ، لجاز أن يقال ، إذا سكن الجوهر عن تحرك ، فكونه ساكنا حال ثابتة بالقدرة ، من غير احتياج إلى تقدير سكون هو عرض زائد عن الذات ، وذلك يقضي بإنكار الأعراض ، ولا محيص لهم عن ذلك.
ومما انعكس به شبههم أن نقول : العبد عندكم مطالب بالنظر ابتداء ، ولما يعتقد بعد أمرا مطالبا ، فكيف التوصل إلى العلم بالطلب قبل استيقان الطالب الأمر؟
وما عولوا عليه من إلزامنا تناقض الطلب قولا ، ينعكس عليهم بما لا يجدون عنه محيصا ، وذلك أنّا نقول : من أصلكم أن الرب تعلى مصلح عباده بما كلفهم من طاعته ، فإذا فرضنا الكلام عليكم فيمن علم الله تعالى أنه لو اخترمه ولم يكمل عقله لنجا من العذاب. ولو أكمل عقله وأقدره