ذو تحقيق إلا أفحمته» ، فلا يتوهم عاقل دخول هذا المخبر عن نفسه تحت موجب كلامه ، حتى يقدر كونه مفحما نفسه. ولا تندرئ قواطع النصوص بالروغان والحيل.
ونستدل بكل آية في كتاب الله دالة على تمدح الباري تعالى بكونه قادرا على كل شيء ، ولا معنى لذلك عند المعتزلة ، فإن المعنى بقوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة البقرة : ٢٨٤] ، أنه قادر على أفعال نفسه وليس بمقتدر على أفعال غيره. وإذا كان الأمر كذلك ، فالعبد أيضا قادر على كل شيء على هذا التأويل ، ويبطل تمدح الباري تعالى عند التحصيل.
ومما يستدل به أيضا قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [سورة الصافات : ٩٦]. وسنعقد فصلا في معنى الهدى والضلال ، والختم والطبع وشرح الصدور ونعتصم فيه بالقواطع من نصوص الكتاب وفحوى الخطاب.
وقد حان أن نذكر عصم المعتزلة وشبههم وهي تنقسم عندهم إلى مدارك العقول ومآخذ السمع.
فمما تمسكوا به في مدارك العقول ، أن قالوا : العاقل يميز بين مقدوره ، وبين ما ليس بمقدوره ؛ ويدرك تفرقة بين حركاته الإرادية ، وألوانه التي لا اقتدار له عليها. ووجه الفصل بين القبيلين أنه يصادف مقدوره واقعا به على حسب قصوده ودواعيه ، ولا يقع منه ما لا يقع على حسب انكفافه وانصرافه. فإذا صادف الشيء واقعا على حسب المقصود والداعية ، لم يسترب في وقوعه به ، ثم لا يقع به إلا الحدوث ، فليكن العبد محدثا لفعله. ولو كان فعله غير واقع به ، لكان بمثابة لونه وسائر صفاته الخارجة عن مقدوراته.
قلنا : هذا الذي عولتم عليه ، دعاوى غير مقرونة بأدلة. فأما قولكم : إن المقدور يقع على حسب الداعية والقصد ، فباطل من أوجه ، منها : أن ذلك لا يعم الأحوال ولا يشمل الأفعال ، بل الأمر على الانقسام ؛ فرب فعل يقع على حسب القصد ، وربما لا يقع على حسبه ، فإن أفعال العاقل الذاهل غير واقعة على حسب قصده ودواعيه ، وكذلك كل ما يصدر من النائم والمغمى عليه من الأفعال.
فإذا لم يطرد ما قالوه في جميع الأفعال ، فوقوع بعضها على حسب الداعية لا يدل على كونه واقعا بالعبد من فعله. فإنه قد يقع الشبع عند الأكل ، والري عند الشرب ، واكتساب الثوب ألوانا مقصودة عند الصبغ ، وفهم المخاطب عند الإفهام ، وخجله ووجله عند التخجيل والتهويل ؛ فهذه الأفعال ، مع وقوعها على حسب المقصود ، ليست أفعالا لذي الدواعي والقصود.
ثم نقول : من اعتقد أن لا خالق إلا الله فلا تدعوه داعية إلى الخلق ، ولا يصح مع هذا الاعتقاد منه القصد إلى الإحداث. وأفعال معظم الخليقة غير واقعة على حسب القصد ، فإن المقصود الواقع بالعبد عند الخصوم الحدوث. فإذا وضح أنه غير مقصود من الذين ذكرناهم ، بطل استرواحهم إلى الدواعي ، وفسد ما عولوا عليه من الدعاوى.
ثم نقول : لا يبعد عندكم أن يخلق الباري تعالى في العبد أكوانا ضرورية ، ويخلق فيه الدواعي ضرورية إليها على الاطراد ، ولو كان الأمر كذلك لكانت الأكوان واقعة على حسب الدواعي. ثم لا