ومن المستحيل أن يكون الباري تعالى مالكا ما لا يقدر عليه ، وإله ما لا يعد من مقدوراته ، ولا بد لكل مخلوق من رب ومالك وإذا كان العبد خالقا لأفعال نفسه لزم أن يكون ربها وإلهها ، من حيث استبد بالاقتدار عليها ، وهذه عظيمة في الدين ، لا يبوء بها موفّق. وقد دل عليه فحوى التنزيل ، فإنه عز من قائل قال : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [سورة المؤمنون : ٩١].
ومما نتلقاه من هذه المآخذ أن نقول : خلق المعرفة والطاعات والقربات ، أحسن من خلق الأجسام وأعراضها التي ليست من قبيل الطاعات ، فلو اتصف العبد بخلق المعارف لكان أحسن خلقا من ربه ، ولكان أولى بإصلاح نفسه وإرشادها وإنقاذها من الغيّ والمعاطب من ربه. ومن زعم أن العبد أصلح لنفسه من ربه ، فقد راغم إجماع المسلمين وفارق الدين.
وإن قالوا : لو لا القدرة على الإيمان لما تمكن العبد من خلق الإيمان ، فالقدرة إذا أصلح وأحسن ؛ قلنا مضمون ذلك يلزم صاحب هذا المقال أن يجعل القدرة على الكفر شرا من الكفر ، حيث إنه لا يتمكن منه إلا بها ، والقدرة صالحة للضدين ، وليست بأحدهما أولى منها بالآخر ؛ فلئن كان الرب تعالى مصلحا عبده بالاقتدار على الإيمان ، فليكن مفسدا له بالتمكن من الكفر. وهذا القدر كاف في مقصودنا من مآخذ إطلاق الأمة.
فأما نصوص الكتاب ، فمنها قوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة الأنعام : ١٠٢] الآية. والآية تقتضي تفرد الباري تعالى بخلق كل مخلوق ، والاستدلال بها يعتضد بأنّا نعلم أن فحواها يتضمن التمدح بالاختراع والإبداع ، والتفرد بخلق كل شيء ؛ فلو كان غيره خالقا مبدعا لانتفى التمدح بالخلق المحمول على الخصوص ، ولساغ للعبد أن يتمدح بأنه خالق كل شيء ، ومراده أنه خالق لبعض المخلوقات.
فإن قالوا : هذا الذي تمسكتم به عموم ، وللعلماء في الصيغ العامة مذهبان : أحدهما جحد اقتضاء الألفاظ للعموم ، والثاني القول بالعموم مع المصير إلى تعرضه للتأويل ، وكل ظاهر متعرض لجهات الاحتمالات ، فلا يسوغ التمسك به في القطعيات. قلنا : لم نتمسك بمحض الصيغة حتى أوضحنا اقترانها بإرادة التمدح ، وبينا أن ذلك التمدح مفهوم من مقتضى الآية على قطع ، ولا يستمر حمل الآية على الخصوص مع ما استيقناه من التمدح ، والمفهوم وإن لم يستفد من مجرد الصيغ فهو متلقى من القرائن.
وعلى هذا الوجه يستدل بقوله تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ، قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة الرعد : ١٦] الآية. وهذه الآية نص في محل النزاع. فإن قالوا : هي متروكة الظاهر ، وكذلك التي استدللتم بها قبل ، فإن الظاهر في الآيتين يقتضي كون الرب تعالى خالق كل شيء ، واسم الشيء يطلق على القديم والحادث. قلنا : المخاطب المتكلم في هذه المواضع لا يدخل تحت قضية الخطاب ، ونظير ذلك قول القائل : «لا يلقاني خصم منطيق ولا جدل