عند التمكن من الضدين. ولو كانت القدرة لا تتعلق إلا بمقدور واحد ، لكان العبد ملجأ إليه غير واجد عنه محيصا. وهذا الذي ذكروه دعوى محضة ، واقتصار على ذلك المذهب. فليس من شرط القدرة على شيء القدرة على تركه ، وسبيل تعلق القدرة الحادثة بمقدورها كسبيل تعلق العلم بالمعلوم ، وليس من شرط تعلق العلم بالمعلوم أن يتعلق بضد له.
ثم ما ذكروه لا يستقيم منهم ، مع مصيرهم إلى أن الممنوع قادر على ما منع منه. وأصلهم أن المقيد المربوط قادر على المشي والتصعد في الهواء. فإذا ساغ لهم الحكم بإثبات القدرة مع امتناع وقوع المقدور ، لم يبعد منا إثبات القدرة على الشيء من غير اقتدار على ضده.
فصل
فإن قيل : قد شاع من مذهب شيخكم تجويز تكليف ما لا يطاق ، فأوضحوا ما ترتضونه منه ، وأيدوه بالدليل بعد تصوير المسألة. قلنا : تكليف ما لا يطاق تكثر صوره. فمن صوره تكليف جمع الضدين ، وإيقاع ما يخرج عن قبيل المقدورات. والصحيح عندنا أن ذلك جائز عقلا غير مستحيل. واختلف جواب شيخنا رضي الله عنه في جواز تكليف من لا يعلم ، كالمغشيّ عليه والميت.
والدليل على جواز تكليف المحال ، الاتفاق على جواز تكليف العبد القيام مع كونه قاعدا حالة توجه الأمر عليه ، وقد أقمنا الدليل القاطع على أن القاعد غير قادر على القيام. فإذا جاز كون القيام مأمورا به قبل القدرة عليه ، وإن كان ذلك غير ممكن ، فلا يبقى لاستحالة تكليف المستحيل وجه.
فإن قيل : القيام ممكن على الجملة ، بخلاف جمع الضدين ؛ قيل : وقوع القيام مقدورا من غير قدرة عليه مستحيل كجمع الضدين ، وإنما المأمور به قيام مقدور عليه.
فإن قيل : المأمور بالقيام منهي عن تركه ؛ فلئن كان القاعد ، في حال قعوده ، غير قادر على القيام المأمور به ، فهو قادر على القعود المنهي عنه ، وهو متعلّق التكليف. وهذا أقرب وجه ذكر في ذلك ، وهو على التحصيل باطل من وجهين : أحدهما أن الأمر بالترقي في السماء من تكليف المحال عند نفاته ، وإن كان الاستقرار على الأرض مقدورا ممكنا ، وهو ضد للترقي والتحليق في جو السماء. والوجه الآخر أن القعود وإن كان منهيا عنه ، فليس المقصود القعود ، بل المقصود بالطلب ما لا قدرة عليه وهو التحلّق في جو السماء.
فإن قالوا : الأمر بالضدين ينبئ عن طلب جمعهما ، وطلب الجمع يتطلب إرادة ، وإرادة جمع الضدين مستحيلة ؛ قلنا : هذا مبنيّ على أن المأمور به يجب أن يكون مرادا للآمر ، وليس الأمر كذلك عندنا. فإن الرب تعالى يأمر الكافر بالإيمان ، وإذا كان شقيا في حكمه لا يريد منه وقوع الإيمان.
فإن قيل : ما جوزتموه عقلا ، هل اتفق وقوعه شرعا؟ قلنا : قال شيخنا ذلك واقع شرعا ، فإن الله تعالى أمر أبا لهب أن يصدق النبي ويؤمن به في جميع ما يخبر به ، ومما أخبر به أنه لا يؤمن