بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٠)
يذكر تعالى حال الكفار ، إذا وقفوا يوم القيامة على النار ، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال ، فعند ذلك ، قالوا (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ، ليعملوا عملا صالحا ، ولا يكذبوا بآيات ربهم ، ويكونوا من المؤمنين.
قال الله تعالى : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) أي بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة ، وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة ، كما قال قبله بيسير (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم ، من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا ، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه ، كقوله مخبرا عن موسى ، أنه قال لفرعون (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢] الآية ، وقوله تعالى مخبرا عن فرعون وقومه (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين ، الذين كانوا يظهرون الإيمان للناس ويبطنون الكفر ، ويكون هذا إخبارا عما يكون يوم القيامة ، من كلام طائفة من الكفار ، ولا ينافي هذا كون هذه السورة مكية ، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب ، فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية ، وهي العنكبوت ، فقال (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) [العنكبوت : ١١] وعلى هذا فيكون إخبارا عن قول المنافقين في الدار الآخرة ، حين يعاينون العذاب ، فظهر لهم حينئذ غب ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق ، والله أعلم.
وأما معنى الإضراب ، في قوله (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان ، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه ، جزاء على ما كانوا عليه من الكفر ، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ، ليتخلصوا مما شاهدوا من النار ، ولهذا قال (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي في طلبهم الرجعة ، رغبة ومحبة في الإيمان.
ثم قال مخبرا عنهم أنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، من الكفر والمخالفة (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي في قولهم : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ، (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ، أي لعادوا لما نهوا عنه ، ولقالوا (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ما هي إلا هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها ، ولهذا قال وما نحن بمبعوثين ثم قال (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) أي أوقفوا بين يديه قال (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) أي أليس هذا المعاد بحق ، وليس بباطل كما كنتم تظنون ، (قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ