ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ، ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم ، إن كان ثم معاد ، فإذا كان يوم القيامة تقطعت بهم الأسباب ، وانزاح الضلال ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ويناديهم الرب جل جلاله على رؤوس الخلائق (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص : ٦٢ ـ ٧٤] ويقال لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) [الشعراء : ٩٢ ـ ٦٣] ولهذا قال هاهنا (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أي في العبادة لهم ، فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم.
ثم قال تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) قرئ بالرفع أي شملكم ، وبالنصب أي لقد تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات والوسائل ؛ (وَضَلَّ عَنْكُمْ) أي ذهب عنكم (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) من رجاء الأصنام والأنداد ، كقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة : ١٦٦ ـ ١٦٧] وقال تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] وقال تعالى : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [العنكبوت : ٢٥] وقال (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) [القصص : ٦٤] الآية ، وقال (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) إلى قوله (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ٢٢ ـ ٢٤] والآيات في هذا كثيرة جدا.
(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٩٧)
يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى ، أي يشقه في الثرى ، فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها ، من الحبوب والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها من النوى ، ولهذا فسر قوله (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) بقوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) أي يخرج النبات الحي من الحب والنوى ، الذي هو كالجماد الميت ، كقوله (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) إلى قوله (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : ٣٣ ـ ٣٦] وقوله (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) معطوف على (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) ثم فسره ثم عطف عليه قوله (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) وقد عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى ، فمن قائل : يخرج الدجاجة من البيضة وعكسه ، ومن قائل : يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها.