ابتليناهم بهذا وهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا ولا انتهوا بهذا ولا بهذا ، بل قالوا : قد مسنا من البأساء والضراء ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر ، وإنما هو الدهر تارات وتارات ، بل لم يتفطنوا لأمر الله فيهم ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين.
وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء ويصبرون على الضراء كما ثبت في الصحيحين «عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له» (١) فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء ، ولهذا جاء في الحديث «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه ، والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله ولا فيم أرسلوه» (٢) أو كما قال ، ولهذا عقب هذه الصفة بقوله (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي أخذناهم بالعقوبة بغتة ، أي على بغتة ، وعدم شعور منهم أي أخذناهم فجأة كما في الحديث «موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر» (٣).
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ(٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٩٩)
يخبر تعالى عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل ، كقوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨] أي ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس ، فإنهم آمنوا وذلك بعد ما عاينوا العذاب ، كما قال تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [الصافات : ١٤٧ ـ ١٤٨] وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) [سبأ : ٣٤] الآية.
وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) أي آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل وصدقت به واتبعوه ، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي قطر السماء ونبات الأرض ، قال تعالى : (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا
__________________
(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤.
(٢) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٣٢ ، والترمذي في الطهارة باب ٢ ، ومالك في الطهارة حديث ٣١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٠٣.
(٣) أخرجه أبو داود في الجنائز باب ١٠ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٢٤ ، ٤ / ٢١٩.