وقال ابن جرير (١) : حدثني ابن بشار حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال «تبعث كل نفس على ما كانت عليه» وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجة من غير وجه ، عن الأعمش به ، ولفظه «يبعث كل عبد على ما مات عليه» (٢) وعن ابن عباس مثله ، قلت : ويتأيد بحديث ابن مسعود ، قلت : ولا بد من الجمع بين هذا القول إن كان هو المراد من الآية ، وبين قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] وما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (٣).
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول الله تعالى «إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» (٤) الحديث ، ووجه الجمع على هذا ، أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال ، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره ، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وجعله في غرائزهم وفطرهم ومع هذا قدر أن منهم شقيا ومنهم سعيدا (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ).
وفي الحديث «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» (٥) وقدر الله نافذ في بريته ، فإنه هو (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ٣] و (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] وفي الصحيحين «فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة» (٦) ولهذا قال تعالى : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) ثم علل ذلك فقال (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية.
قال ابن جرير (٧) : وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها ، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عنادا منه لربه فيها ، لأنه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه مهتد ، وفريق الهدى فرق ، وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية.
__________________
(١) تفسير الطبري ٥ / ٤٦٦.
(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٨٣ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢٦.
(٣) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٨٠ ، وتفسير سورة ٣٠ ، باب ١ ، ومسلم في القدر حديث ٢٢ ، ٢٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٣ ، ٣٩٣.
(٤) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣.
(٥) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ١.
(٦) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٨٢ ، ومسلم في القدر حديث ٦.
(٧) تفسير الطبري ٥ / ٤٦٩.