يقول تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) يدعوهم إلى الله عزوجل ، ولكنا خصصناك يا محمد بالبعثة إلى جميع أهل الأرض ، وأمرناك أن تبلغهم القرآن (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الأنعام : ٩٣] (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨]. وفي الصحيحين «بعثت إلى الأحمر والأسود» (١) ، وفيهما «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة» ولهذا قال تعالى : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ) يعني القرآن ، قاله ابن عباس ، (جِهاداً كَبِيراً) كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣] الآية.
وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي خلق الماءين : الحلو والملح ، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار ، وهذا هو البحر الحلو العذب الفرات الزلال ، قاله ابن جريج ، واختاره ابن جرير ، وهذا المعنى لا شك فيه ، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات ، والله سبحانه وتعالى إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه ، فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس ، فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا وعيونا في كل أرض ، بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأرضيهم.
وقوله تعالى : (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي مالح مر زعاق لا يستساغ ، وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب : البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق ، وبحر القلزم ، وبحر اليمن ، وبحر البصرة ، وبحر فارس ، وبحر الصين والهند ، وبحر الروم ، وبحر الخزر ، وما شاكلها وما شابهها من البحار الساكنة التي لا تجري ، ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح ، ومنها ما فيه مد وجزر ، ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض ، فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى غايتها الأولى ، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة ، ثم تشرع في النقص ، فأجرى الله سبحانه وتعالى ـ وهو ذو القدرة التامة ـ العادة بذلك ، فكل هذه البحار الساكنة ، خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة لئلا يحصل بسببها نتن الهواء ، فيفسد الوجود بذلك ، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان ، ولما كان ماؤها مالحا ، كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة ، ولهذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد سئل عن ماء البحر : أنتوضأ به؟ فقال «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (٢) رواه الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأهل السنن بإسناد جيد.
وقوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً) أي بين العذب والمالح (بَرْزَخاً) أي حاجزا
__________________
(١) تقدم الحديثان مع تخريجهما عند الآية الأولى من هذه السورة.
(٢) تقدم الحديث مع تخريجه عند تفسير الآية الثالثة من سورة المائدة. الجزء الثالث.