(يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين العظيم ، حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير ، وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضا ، وهذا شيء لم يعطه أحد من البشر فيما علمناه مما أخبر الله به ورسوله ، ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود ، كما قد يتفوه به كثير من الناس ، فهو قول بلا علم ، ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة ، إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم ، ويعرف ما تقول ، وليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا ، بل لم تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال. ولكن الله سبحانه كان قد أفهم سليمان ما يتخاطب به الطيور في الهواء ، وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها ، ولهذا قال تعالى : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي مما يحتاج إليه الملك (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي الظاهر البين لله علينا.
قال الإمام أحمد (١) : حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «كان داود عليهالسلام فيه غيرة شديدة ، فكان إذا خرج أغلقت الأبواب ، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع ـ قال ـ فخرج ذات يوم وأغلقت الأبواب ، فأقبلت امرأة تطلع إلى الدار ، فإذا رجل قائم وسط الدار ، فقالت لمن في البيت : من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة؟ والله لنفتضحن بداود ، فجاء داود عليهالسلام فإذا الرجل قائم وسط الدار ، فقال له داود : من أنت؟ فقال : الذي لا يهاب الملوك ولا يمتنع من الحجاب ، فقال داود : أنت إذا والله ملك الموت مرحبا بأمر الله ، فتزمل داود مكانه حتى قبضت نفسه حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس ، فقال سليمان عليهالسلام للطير : أظلي على داود ، فظللت عليه الطير حتى أظلمت عليه الأرض ، فقال لها سليمان : اقبضي جناحا جناحا» قال أبو هريرة : يا رسول الله كيف فعلت الطير؟ فقبض رسول الله يده وغلبت عليه يومئذ المضرحية. قال أبو الفرج بن الجوزي : المضرحية هن النسور الحمراء.
وقوله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ، يعني ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس وكانوا هم الذين يلونه ، والجن وهم بعدهم في المنزلة ، والطير ومنزلتها فوق رأسه ، فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها. وقوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له. قال مجاهد : جعل على كل صنف وزعة يردون أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما يفعل الملوك اليوم.
__________________
ـ ٢٠٨ ، ٢ / ٤٦٣ ، ٦ / ١٤٥ ، ٢٦٢.
(١) المسند ٢ / ٤١٩ ، ولفظه : المصرحية بدل المضرحية.