وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة فقال لي : أمسك رأس البغل حتى أنزل ، فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكينا معه وقصدني ، ففررت من بين يديه وتبعني ، فناشدته الله وقلت : خذ البغل بما عليه ، فقال هو لي : وإنما أريد قتلك ، فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل ، فاستسلمت بين يديه وقلت : إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال : عجل ، فقمت أصلي فأرتج علي القرآن فلم يحضرني منه حرف واحد ، فبقيت واقفا متحيرا وهو يقول : هيه افرغ ، فأجرى الله على لساني قوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده فخر صريعا ، فتعلقت بالفارس وقلت : بالله من أنت؟ فقال : أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. قال : فأخذت البغل والحمل ورجعت سالما.
وذكر في ترجمة فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجيلة قالت : هزم الكفار يوما المسلمين في غزوة فوقف جواد جيد بصاحبه وكان من ذوي اليسار ومن الصلحاء ، فقال للجواد : ما لك؟ ويلك إنما كنت أعدك لمثل هذا اليوم ، فقال له الجواد : وما لي لا أقصر وأنت تكل العلوفة إلى السواس فيظلمونني ولا يطعمونني إلا القليل؟ فقال : لك علي عهد الله أن لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا في حجري ، فجرى الجواد عند ذلك ونجى صاحبه وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في حجره.
واشتهر أمره بين الناس وجعلوا يقصدونه ليسمعوا منه ذلك وبلغ ملك الروم أمره ، فقال : ما تضام بلدة يكون هذا الرجل فيها ، واحتال ليحصله في بلده فبعث إليه رجلا من المرتدين عنده ، فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حسنت نيته في الإسلام وقومه حتى استوثق ، ثم خرجا يوما يمشيان على جنب الساحل ، وقد واعد شخصا آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره ، فلما اكتنفاه ليأخذاه رفع طرفه إلى السماء وقال : اللهم إنه إنما خدعني بك فاكفنيهما بما شئت. قال : فخرج سبعان فأخذاهما ورجع الرجل سالما.
وقوله تعالى : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي يخلف قرنا لقرن قبلهم وخلفا لسلف كما قال تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) [الأنعام : ١٣٣] وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الأنعام : ١٦٥] وقال تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] أي قوما يخلف بعضهم بعضا كما قدمنا تقريره ، وهكذا هذه الآية (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي أمة بعد أمة ، وجيلا بعد جيل ، وقوما بعد قوم ، ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد ، ولم يجعل بعضهم من ذرية بعض ، بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين كما خلق آدم من تراب ، ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض ، ولكن لا يميت أحدا حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد ، فكانت تضيق عليهم الأرض ، وتضيق عليهم معايشهم وأكسابهم ،