(فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي الذين أخذوه فتلوه حق تلاوته من أحبارهم العلماء الأذكياء ، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأشباههما. وقوله تعالى : (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) يعني العرب من قريش وغيرهم (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) أي ما يكذب بها ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل ، ويغطي ضوء الشمس بالوصائل وهيهات.
ثم قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ، وهكذا صفته في الكتب المتقدمة ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [الأعراف : ١٥٧] الآية ، وهكذا كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم دائما إلى يوم الدين ، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده ، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم.
ومن زعم من متأخري الفقهاء كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليهالسلام كتب يوم الحديبية : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري : ثم أخذ فكتب. وهذه محمولة على الرواية الأخرى : ثم أمر فكتب. ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي ، وتبرؤوا منه ، وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم ، وإنما أراد الرجل ـ أعني الباجي ـ فيما يظهر عنه ، أنه كتب ذلك على وجه المعجزة لا أنه كان يحسن الكتابة ، كما قال صلىاللهعليهوسلم إخبارا عن الدجال : «مكتوب بين عينيه كافر» وفي رواية «ك ف ر ، يقرؤها كل مؤمن» (١) وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمتصلىاللهعليهوسلم حتى تعلم الكتابة ، فضعيف لا أصل له ، قال الله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) أي تقرأ (مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) لتأكيد النفي ولا تخطه بيمينك ، تأكيد أيضا ، وخرج مخرج الغالب كقوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨].
وقوله تعالى : (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس ، فيقول إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان: ٥] قال الله تعالى : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الفرقان : ٦] الآية ، وقال هاهنا : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق أمرا ونهيا وخبرا ، يحفظه العلماء يسره الله عليهم حفظا وتلاوة وتفسيرا ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ٤٠] وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
__________________
(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ١٧ ، والفتن باب ٢٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٧٠ ، والفتن حديث ٤٥ ، ٩٥ ، ١٠١ ، ١٠٥.