وقوله : (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنما بعثت نذيرا لكم بين النذارة ، فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف : ١٧] وقال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢] ثم قال تعالى مبينا كثرة جهلهم وسخافة عقلهم حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمدصلىاللهعليهوسلم فيما جاءهم ، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، الذي هو أعظم من كل معجزة ، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته بل عن معارضة عشر سور من مثله ، بل عن معارضة سورة منه ، فقال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي أو لم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم ، ونبأ ما بعدهم ، وحكم ما بينهم ، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ، ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب ، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه وبالحق الواضح البين الجلي ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٧] وقال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) [طه : ١٣٣].
وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حجاج ، حدثنا ليث ، حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (٢) أخرجاه من حديث الليث. وقد قال الله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن في هذا القرآن لرحمة أي بيانا للحق وإزاحة للباطل ، وذكرى بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين لقوم يؤمنون.
ثم قال تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أي هو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب ، ويعلم ما أقول لكم من إخباري عنه بأنه أرسلني ، فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني ، كما قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧] وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به ، ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لا تخفى عليه خافية (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي يوم القيامة سيجزيهم على ما فعلوا ويقابلهم على ما صنعوا في تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل ، كذبوا برسل الله مع قيام الأدلة على صدقهم ، وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل ، فسيجزيهم على ذلك إنه حكيم عليم.
__________________
(١) المسند ٢ / ٣٤١ ، ٤٥١.
(٢) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ١ ، والاعتصام باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٩.