والغرض أنهم استمروا على النصرانية ، كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى كان آخرهم هرقل ، وكان من عقلاء الرجال ، ومن أحزم الملوك وأدهاهم ، وأبعدهم غورا ، وأقصاهم رأيا ، فتملك عليهم في رئاسة عظيمة وأبهة كبيرة ، فناوأه كسرى ملك الفرس وملك البلاد كالعراق وخراسان والري وجميع بلاد العجم ، وهو سابور ذو الأكتاف ، وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر ، وله رئاسة العجم ، وحماقة الفرس ، وكانوا مجوسا يعبدون النار.
فتقدم عن عكرمة أنه : بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه ، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده ، فقهره وكسره وقصره ، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية ، فحاصره بها مدة طويلة ، حتى ضاقت عليه ، وكانت النصارى تعظمه تعظيما زائدا ، ولم يقدر كسرى على فتح البلد ، ولا أمكنه ذلك لحصانتها لأن نصفها من ناحية البر ، ونصفها الآخر من ناحية البحر ، فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هنالك ، فلما طال الأمر ، دبر قيصر مكيدة ، ورأى في نفسه خديعة ، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه ويشترط عليه ما شاء ، فأجابه إلى ذلك ، وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة ، فطاوعه قيصر وأوهمه أن عنده جميع ما طلب ، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب ، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عشره ، وسأل كسرى أن يمكنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته ، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه ، فأطلق سراحه.
فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينة فجمع أهل ملته وقال : إني خارج في أمر قد أبرمته في جند قد عينته من جيشي ، فإن رجعت إليكم قبل الحول ، فأنا ملككم ، وإن لم أرجع إليكم قبلها ، فأنتم بالخيار : إن شئتم استمررتم على بيعتي ، وإن شئتم وليتم عليكم غيري ، فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيا ، ولو غبت عشرة أعوام ، فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط هذا ، وكسرى مخيم على القسطنطينية ينتظره ليرجع ، فركب قيصر من فوره وسار مسرعا حتى انتهى إلى بلاد فارس ، فعاث في بلادهم قتلا لرجالها ومن بها من المقاتلة أولا فأولا.
ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن وهي كرسي مملكة كسرى ، فقتل من بها وأخذ جميع حواصله وأمواله ، وأسر نساءه وحريمه ، وحلق رأس ولده وركبه على حماره ، وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة ، وكتب إلى كسرى يقول : هذا ما طلبت فخذه ، فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله تعالى ، واشتد حنقه على البلد ، فاشتد في حصارها بكل ممكن ، فلم يقدر على ذلك ، فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون التي لا سبيل لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها ، فلما علم قيصر بذلك ، احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة ، وركب في