وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة ، ولم يرد الحصر ولا أن ثم سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم كما يقوله من تلقاه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب ، بل كما قال تعالى في الآية الأخرى (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) [الكهف : ١٠٩] فليس المراد بقوله (بِمِثْلِهِ) آخر فقط بل بمثله ثم بمثله ، ثم بمثله ثم هلم جرا ، لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته.
قال الحسن البصري : لو جعل شجر الأرض أقلاما ، وجعل البحر مدادا ، وقال الله إن من أمري كذا ومن أمري كذا ، لنفد ماء البحر وتكسرت الأقلام. وقال قتادة : قال المشركون : إنما هذا كلام يوشك أن ينفد ، فقال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) أي لو كان شجر الأرض أقلاما ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه.
وقال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ، وقد أنزل الله ذلك (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآية ، يقول : لو كان البحر مدادا لكلمات الله ، والأشجار كلها أقلاما ، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ، لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني كما ينبغي ، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول.
وقد روي أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود. قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمدينة : يا محمد أرأيت قولك (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] إيانا تريد أم قومك؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «كلاكما» قالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إنها في علم الله قليل ، وعندكم من ذلك ما يكفيكم» وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآية ، وهكذا روي عن عكرمة وعطاء بن يسار ، وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية ، لا مكية ، والمشهور أنها مكية ، والله أعلم.
وقوله (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي عزيز قد عز كل شيء وقهره وغلبه ، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه ، حكيم في خلقه وأمره وأقواله وأفعاله وشرعه وجميع شؤونه. وقوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي ما خلق جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كنسبة خلق نفس واحدة ، الجميع هين عليه ، (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٥] أي لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة ، فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكيده (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٢ ـ ١٣] وقوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة ، كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة ، ولهذا قال تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) الآية.